اوراق خاصة

السلوك الأميركي حيال فنزويلا براغماتية مضطربة 

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي 

في المشهد الذي يجمع واشنطن بــ"كاراكاس"، اليوم، يبدو أن السلوك الأميركي حيال نظام نيكولاس مادورو يتحرك على خيط رفيع بين البراغماتية التي تفرضها ضرورات الجغرافيا السياسية، وبين رواسب أيديولوجية عمرها عقدان من الزمن، ظلت ترى في التجربة التشافية خطرًا على نمط الهيمنة الأميركي في نصف الكرة الغربي. 

ما يميز اللحظة الراهنة هو أن واشنطن لم تعد تمتلك ترف الاستمرار، في سياسة العصا الخشنة، كما عرفتها فنزويلا منذ العام 2017، ولا هي قادرة على القبول الصريح بنظام مادورو من دون تعديل سلوكه السياسي والاقتصادي. هكذا ترتكب السياسة الأميركية تناقضات تبدو كأنها جزء من منهج محسوب: تعاقب بين الضغط والانفتاح، وبين العقوبات الجزئية وصفقات الطاقة، وبين دعم المعارضة ورميها في الماء لتتعلم السباحة وحدها.

تتعامل واشنطن مع فنزويلا، اليوم، بوصفها نقطة تقاطع بين ثلاثة مصالح أساسية : 

أولاً- مصلحة الطاقة، فالحرب الأوكرانية أظهرت هشاشة سوق النفط العالمية، ودفعت البيت الأبيض إلى البحث عن كل برميل يمكن أن يخفف الضغط الداخلي المتصاعد. ليس حبًا بــ"مادورو" ولا عودة إلى مقولة حسن الجوار، بل لأنّ فنزويلا تملك احتياطيات هائلة يمكن أن تضخ مرونة في السوق؛ إذا رُفعت القيود التقنية والمالية عن قطاعها النفطي. 

ثانيًا- مصلحة ضبط الهجرة، إذ باتت فنزويلا مصدرًا رئيسًا لتدفقات بشرية هائلة نحو الحدود الجنوبية، الأمر الذي يضع الإدارة الإميركية تحت ضغط داخلي حاد. هذا الملف وحده كفيل بتعديل أي خطاب عقدي إزاء مادورو؛ لأنّ الجمهور الأميركي لم يعد يتعامل مع الهجرة كونها قضية أخلاقية، بل كونها تهديدًا يوميًا على استقرار المدن والولايات الحدودية. 

ثالثًا- مصلحة تعزيز النفوذ في لحظة تتوسع فيها الصين وروسيا، في مناطق اعتادت واشنطن أن تعدّها امتدادًا طبيعيًا لنفوذها.

بناء على ذلك؛ تأتي المعادلة الجديدة التي تحاول واشنطن ترسيخها. إذ إنّ العقوبات على فنزويلا لم تُرفع بالكامل، والانفتاح لم يصل إلى مستوى التطبيع، والتهديد بإعادة فرض القيود بقي حاضرًا في كل خطوة. هذه تقنية أميركية معروفة: إبقاء الخصم في منطقة رمادية، فلا يشعر بالطمأنينة الكافية ليوطد سلطته من دون تنازلات سياسية، ولا ينهار إلى حد يفجّر فوضى مكلفة تستدعي تدخلاً مباشرًا. 

في هذا السياق؛ يمكن قراءة اتفاقيات العام 2023، والتي سمحت بعودة شركات أميركية للعمل في قطاع النفط، مقابل تعهدات من الحكومة الفنزويلية بإجراء انتخابات أكثر انفتاحًا. التعهدات لم تنفذ بالكامل، لكن واشنطن لم تذهب نحو النسخة القديمة من العقاب الشامل؛ إنما بدت وكأنها تختبر حدود ما يمكن أن تحصل عليه من مادورو من دون إدخاله في عزلة تامة تدفعه أكثر نحو بكين وموسكو.

يزداد التعقيد حين ندرك أن المعارضة الفنزويلية لم تعد ورقة مضمونة؛ كما كانت في العقد الماضي. الانقسامات وفشل التعويل على الدعم الخارجي وإنهاك الناس من الصراع المفتوح، جعل واشنطن تتصرف ببرود على خط المعارضة، وتتعامل معها على أنها عامل مهم، لكنه غير حاسم في المعادلة. هذا ما دفع الإدارة الإميركية إلى تطوير رؤية أكثر واقعية:

1.    دفع النظام إلى تنازلات محدودة على صعيد الانتخابات والاقتصاد، من دون تبني مشروع إسقاط شامل، يفتقر حاليًا إلى قادرين على تنفيذه. 

2.    التغير هنا ليس تقليلاً من شأن المعارضة، هو اعتراف بأن الزمن الطويل أعاد تشكيل بنية السلطة والمجتمع في فنزويلا، بطريقة تجعل سقوط النظام مسألة تتجاوز قدرة اللاعبين المحليين والأميركيين معًا.

تعرف واشنطن أن مادورو ليس شريكًا سهلاً، لكنه أيضا ليس خصمًا يمكن التخلص منه بسرعة؛ أو من دون تكلفة. لذلك نجد أن سياستها اتسمت، مؤخرًا، بنبرة مزدوجة: تهديد بإعادة فرض العقوبات إذا لم تُنفذ الالتزامات المتعلقة بالمسار الانتخابي، وتلميحات بفتح باب تعاون اقتصادي تدريجي إذا أظهر النظام مرونة تسمح بتخفيف الأزمة الإنسانية وتطبيع جزئي للعلاقات. هذا ما يجعل السلوك الأميركي يبدو، أحيانًا، مترددًا، لكنّه في الحقيقة تعبير عن حساب بارد: حصر نفوذ الصين وروسيا، تأمين الحدود، استخراج مكاسب اقتصادية يمكن تسويغها لجمهور داخلي يتساءل عن كل دولار يذهب إلى الخارج.

في العمق، لا تنظر الولايات المتحدة إلى فنزويلا خصمًا استراتيجيًا مستقلاً، بل هو جزء من سباق النفوذ مع قوى دولية صاعدة. لذلك؛ تسعى إلى منع كسر التوازن في فنزويلا لمصلحة محور آخر، من دون أن تتحمل كلفة الانخراط المباشر. هذا السلوك يفسر، أيضا، مرونتها الجديدة التي تفهم أن التغيير الكامل في فنزويلا لا يمكن أن يُفرض من الخارج، وما يمكن تحقيقه حاليا هو إدارة أزمة طويلة الامد بأقل خسائر ممكنة.

في المحصلة؛ يتحول المشهد الفنزويلي في العقل الأميركي من ملف عقوبات إلى ملف توازنات، ومن ساحة مواجهة إلى ساحة إدارة. واشنطن لا تريد انتصارًا ساحقًا، بل استقرارًا يحد من خصومها ويخفف كلفة الفوضى عليها. ومادورو، عللا الرغم من الخطاب العداء كله، يدرك أن هذا التوازن يمنحه مساحة للاختيار بين صدام غير مضمون، أو تفاوض تدريجي يحفظ ما يستطيع من نفوذ داخلي، ويعيد تشكيل علاقة بلاده مع العالم من دون أن يطيح بجوهر النظام الذي ورثه. 

في هذه الدائرة تحديدا؛ يتقاطع الحسابان: كل طرف يريد مكاسب محدودة لا تغيّر كل شيء، لكنها تمنع انهيار اللعبة من أساسها.
 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد