اوراق مختارة

لبنان الأوّل عالمياً في النشر العلمي… ودولته تتذيّل سباق الإبتكار

post-img

د. ماجد جابر (صحيفة الديار) 

لم يعد الابتكار، في عصر الذكاء الاصطناعي والتحوّل الرقمي، ترفا أكاديميا أو شعارا تنمويا، بل أصبح معيارا حاسما لتحديد مستقبل الدول وموقعها في خريطة النفوذ العالمي. "مؤشر الابتكار العالمي" الصادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO)، تحوّل إلى ما يشبه "صورة الأشعة"، التي تكشف البنية العميقة للدول: جودة مؤسساتها، قوة تعليمها العالي، فعالية تنظيمها الاقتصادي، دينامية أسواقها، وقدرتها على تحويل المعرفة إلى ثروة وفرص عمل. ويكفي أن نرى دولا مثل سويسرا والسويد وسنغافورة والولايات المتحدة تحتل المراتب الأولى باستمرار، لندرك أن الابتكار ليس مشروع وزارة واحدة، بل خيار وطني شامل تُبنى عليه استراتيجيات التعليم والبحث والاقتصاد والحوكمة الرشيدة، في نسيج واحد ولعقود طويلة.

رغم السباق العالمي، يواصل لبنان السير على حافة الخروج من سباق الابتكار، مع تحسّن "تجميلي" رقمي محدود في المؤشرات، من دون تحوّل جدّي في البنية العميقة. فبحسب "مؤشر الابتكار العالمي" 2025، حلّ لبنان في المرتبة 90 عالميا من أصل 139 دولة، متقدّما أربع درجات عن عام 2024 (94)، لكنّه بقي في الشريحة الدنيا من الدول ذات الدخل المتوسط، وبلا تأثير حقيقي للمعرفة في الاقتصاد الوطني.

الأهم من الترتيب العام هو الفارق بين مدخلات الابتكار (المرتبة 100) ومخرجاته (المرتبة 83)، إذ يكشف هذا التباين عن بلد ينتج بعض المعرفة والمخرجات التكنولوجية والإبداعية والعلمية، ضمن بيئة مؤسساتية واقتصادية عاجزة عن تحويل الابتكار إلى نموّ وفرص عمل واستقرار. هنا يبرز سؤال جوهري: هل يبتكر اللبنانيون رغم الدولة لا بفضلها؟ وهل يمكن لمجتمع أن ينتج معرفةً وأبحاثا ومواهب بشرية، في ظل مؤسسات ضعيفة وبنى تحتية متداعية، من دون أن تتحوّل هذه المعرفة إلى اقتصاد فعلي؟ هل نحن أمام مسار انحداري مستمر؟ أم جمود مع ومضات متفرقة؟ أم أنّ هناك إمكانا حقيقيا لانعطافة مختلفة؟

المؤسسات

أولى الركائز التي تكشف حجم الأزمة البنيوية، هي ركيزة المؤسسات (الركيزة 1، ترتيب 133)، حيث يحلّ لبنان في مرتبة متأخرة تقارب القاع عالميا. البيئة المؤسسية تسجّل ترتيبا متدنّيا في المرتبة ما قبل الأخيرة (138)، وكذلك استقرار تشغيل الأعمال (138)، وفعالية الحكومة (137). أما الإطار التنظيمي فلا يتحسّن كثيرا (128)، ويبقى متدنيا إلى جانب جودة التنظيم (128) وسيادة القانون (129) . في المقابل، تبدو بيئة الأعمال متوسطة نسبيا (ترتيب 103)، مع استقرار سياسات الأعمال ضعيف جدا (131)، بينما تبرز سياسات وثقافة ريادة الأعمال كنقطة قوة نسبية (33).

الخلاصة: الدولة لا توفّر استقرارا ولا قانونا ولا تنفيذا فعّالا، فيما يحتفظ المجتمع بروح المبادرة، والنتيجة منظومة مبتورة: مبادرات فردية قوية تصطدم بسقف مؤسسي منخفض، فلا يجد الشباب المبادر إلا الهجرة أو بيع أفكارهم إلى الخارج. هكذا يتحوّل الابتكار إلى طاقة تُنتج في الداخل ثم تُستثمر في الخارج، في نزف مزدوج للعقول والأفكار.

التعليم

في المقابل، تظهر ركيزة رأس المال البشري والبحث (الركيزة 2، ترتيب 63) ككنز غير مستثمر. في التعليم (ترتيب 102)، يبلغ الإنفاق على التعليم الرسمي من الناتج 2.4% فقط (ضعيف - 123 عالميًا)، مع "معدّل سنوات دراسة" لا يتجاوز 11.2 سنة (ترتيب متأخر- 102)، ونتائج PISA المجمّعة متواضعة (72)، في حين يشكّل انخفاض معدّل التلامذة لكل معلّم في المرحلة الثانوية نقطة إيجابية واضحة (9.4 تلميذا، ترتيب 24).

في التعليم العالي (ترتيب 25) تبدو الصورة أفضل بكثير: نسبة الالتحاق بالتعليم الجامعي تبلغ 54.4% (67)، ونسبة خرّيجي العلوم والهندسة 30.6% (ترتيب متقدم - 18)، والحركة الجامعية الأجنبية الوافدة تصل إلى 12.9% (20 عالميًا)، ما يؤكّد استمرار جاذبية جامعية ومعرفية للبنان. في البحث والتطوير (ترتيب 54)، تظهر الفجوة الأكبر: عدد الباحثين والإنفاق على البحث والتطوير غير متوافرَيْن، في حين تسجّل الشركات الكبرى صفرًا في استثمارات البحث والتطوير المحلية (ترتيب 44)، مع حضور متوسّط لموقع الجامعات في التصنيفات العالمية (ترتيب 48). هنا تتبلور المفارقة: نظام جامعي قادر على إنتاج كفاءات ومعرفة، لكن دون سياسة وطنية واضحة للبحث ولا آلية لتوظيفه في الاقتصاد

البنية التحتية

على مستوى البنية التحتية (الركيزة 3) تبدو الأرض التي يقف عليها الابتكار مهتزّة، هبط لبنان من المرتبة 116 عام 2024 الى المرتبة 120. في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (102)، يظهر وصول مقبول إلى الخدمات والانترنت (ICT access، ترتيب 81)، لكن مع استخدام ضعيف (ترتيب 102)، والخدمات الحكومية الإلكترونية (116 عالميًا) محصورة في منصات متفرقة، وتطبيقات غير متكاملة، ما يعني أن الدولة بعيدة عن التحوّل الرقمي الجدي.

في البنية العامة يسجَّل مستوى متدنٍّ للغاية (الترتيب الأخير- 139)، مع إنتاج كهرباء للفرد (104 عالميا)، وغياب بيانات عن الأداء اللوجستي وتكوين رأس المال الثابت. وحدها الاستدامة البيئية (76) تقدّم مفارقة إيجابية جزئية: كفاءة استخدام الطاقة جيّدة (20 عالميا)، لكن نسبة الطاقة النظيفة/منخفضة الكربون ضعيفة (106)، مع حضور متوسط لشهادات ISO البيئية (64).

عمليا، الابتكار في لبنان ما زال يولد على أرض رخوة: لا كهرباء مستقرة، ولا نقل فعّال، ولا إدارة وخدمات رقمية جدية ومتكاملة، ولا لوجستيات واضحة، ومع ذلك يُطلب من الشركات أن تنافس في اقتصاد عالمي، قائم على الطاقة والمعرفة والشبكات.

ركيزة نضج السوق

ضمن هذا السياق، تعطي ركيزة نضج السوق (الركيزة 4، ترتيب 42) صورة ملتبسة. في الائتمان (ترتيب 14) تبدو قدرة التمويل قوية على الورق: تمويل الشركات الناشئة والتوسّع (15 عالميًا)، والائتمان للقطاع الخاص كنسبة من الناتج (21). لكنّ أدوات التمويل هذه محكومة بواقع أزمة مصرفية ومالية عميقة تجعل «جودة» الائتمان وقدرته على خدمة الابتكار موضع شكّ.

في الاستثمار (ترتيب 59)، نرى سوقًا مالية محدودة: القيمة السوقية للأسهم عند 27.3% من الناتج (52 عالميًا)، ورأس المال المغامر المستقطَب ضعيف (ترتيب 60)، والصفقات المتأخرة في رأس المال المغامر تكاد تكون معدومة (ترتيب 81)، في مقابل حضورٍ أفضل لعدد المستثمرين في رأس المال المغامر (49).

أما التجارة وحجم السوق (95)، فتظهر من خلال تعرفة جمركية متوسطة (4.1%، ترتيب 88)، وتنوّع مقبول نسبيًا في القاعدة الصناعية (76)، لكن مع سوق داخلية صغيرة نسبيًا من حيث الحجم الاقتصادي (107). الصورة هنا: تمويل موجود، لكنّه في معظمه قصير النفس أو مرتفع الكلفة، وسوق داخلية محدودة تدفع معظم المشاريع الجدية للبحث عن التوسّع خارج لبنان.

في ركيزة نضج الأعمال (لركيزة 5، ترتيب 71) تتجاور قوّة اليد العاملة المعرفية مع ضعف الروابط الابتكارية. فعمّال المعرفة (ترتيب 35) يسجّلون حضورا جيّدا: نسبة العمالة في الوظائف كثيفة المعرفة (53 عالميًا)، ونسبة النساء العاملات الحاصلات على درجات متقدّمة 14.6% (55)، مع «عائد ديموغرافي شبابي» يبلغ 42.9% (50).

لكن الإنفاق البحثي الذي تنفّذه الشركات غير متوافر، ما يكشف غياب ثقافة البحث والتطوير داخل القطاع الخاص. في روابط الابتكار (85)، تأتي إحدى أضعف النقاط: المنشورات المشتركة بين البحث العام والصناعة (138عالميًا)، والتعاون في البحث والتطوير بين الجامعات والصناعة (98)، مع مستوى متوسط لاندماج الجامعات في الشراكات الدولية والصناعية (39)، وحالة عنقودية ضعيفة (99)، رغم ترتيب مقبول لبراءات العائلات الدولية (48). في امتصاص المعرفة (ترتيب 127)، تبدو الصورة أكثر سوءًا: مدفوعات الملكية الفكرية شبه معدومة (0.1 من التجارة، ترتيب 119)، والواردات من السلع عالية التقنية عند 5.8% (107)، وخدمات الـICT المستوردة عند 0.3% فقط (130)، ما يعكس اقتصادا لا يستهلك حتى التكنولوجيا المتقدمة بما يكفي، فضلًا عن أن يطوّرها. ورغم تسجيل تدفقات استثمار أجنبي مباشر عند 3.4% من الناتج (52 عالميًا)، يبقى «الكوادر البحثية في الشركات» غير مقاسة، ما يعني أن صلة البحث بالقطاع الخاص هشّة للغاية.

مخرجات المعرفة والتكنولوجيا

تتجلى المفارقة الكبرى في مخرجات المعرفة والتكنولوجيا (الركيزة 6، ترتيب 59). في خلق المعرفة (ترتيب 17)، يسجل لبنان نتيجة قوية: براءات الاختراع المحلية (60 عالميًا)، والإنجاز الأبرز المقالات العلمية والتقنية (المرتبة الأولى عالميًا)، مع H-index عند 13.5 (ترتيب 64). في المقابل، تأثير المعرفة على الاقتصاد (138) ضعيف للغاية: نمو إنتاجية العمل سلبي (137)، وقيمة الشركات الناشئة "(unicorns)" قياسا إلى الناتج شبه معدومة (ترتيب 53)، بينما يكاد الإنفاق على البرمجيات يساوي صفرًا (119)، وحصة الصناعات عالية التقنية من الإنتاج 14.6% فقط (75). الصورة واضحة: المعرفة تُنتج بكثافة، لكنّها لا تتحوّل إلى إنتاجية ولا إلى قطاع تكنولوجي تنافسي.

أما تدفّق المعرفة ونشرها (61) فمزيج من نقاط قوة وضعف: عوائد الملكية الفكرية من الخارج ضئيلة (58)، ودرجة تعقيد الإنتاج والتصدير متوسطة (44)، بينما تبلغ صادرات السلع عالية التقنية 0.7% فقط (ترتيب 89)، وصادرات خدمات ICT 0.8% (ترتيب 95). ويظهر لبنان بصورة أفضل في شهادات الجودة ISO 9001 (ترتيب 27)، ما يشير إلى أن جزءًا من القطاع الإنتاجي ما يزال يحافظ على معايير عالمية رغم الأزمات.

المخرجات الإبداعية

أخيرًا، تعكس المخرجات الإبداعية (الركيزة 7، ترتيب 102) فجوة بين الحيوية الثقافية والاقتصاد الإبداعي المؤسسي. الأصول غير الملموسة ضعيفة (126): العلامات التجارية المسجلة محليًا (112 عالميًا)، والقيمة الإجمالية للعلامات التجارية العالمية المرتبطة بلبنان متواضعة (65 عالميًا)، مع غياب بيانات للتصاميم الصناعية. في السلع والخدمات الإبداعية (60)، تسجل صادرات الخدمات الثقافية والإبداعية نسبة 1.0% من التجارة (32 عالميًا)، وعدد الأفلام الروائية المنتجة الوطنية (39 عالميًا)، وسوق الإعلام والترفيه (58)، وصادرات السلع الإبداعية 1.4% من التجارة (35). أما الإبداع الرقمي (ترتيب 60)، فيحتفظ بحضور متوسط من حيث الأثر: عدد نطاقات المستوى الأعلى يبلغ 3.5 لكل ألف من الفئة 15–69 (71)، وعدد الالتزامات على GitHub (63)، في حين يحتل إنشاء تطبيقات الهواتف المحمولة (ترتيب 31). الخلاصة: الإبداع الثقافي والرقمي حاضر، لكن تحويله إلى أصول غير ملموسة قوية وقطاعات وصادرات إبداعية ما زال محدودًا.

لبنان يتقدّم في الأرقام ويتراجع على الأرض

عند جمع هذه الصورة، يظهر لبنان كبلد يملك «مادة الابتكار الخام»، لكنه يفتقر إلى منظومة تديرها. من هنا، يصبح السؤال الإشكالي ضروريا: هل سيبقى لبنان بلدا يصدّر العقول والمعرفة والإبداع، فيما يترك اقتصاده الوطني يترنّح على حافة الانهيار؟ هل يمكن أن يولد ابتكارٌ مستدام تحت سقف مؤسساتٍ متصدعة وخدمات عامة متعثرة؟ وإذا كان اللبناني يبرهن أنه قادر على التميّز في أرقى بيئات الابتكار في العالم، فما الذي يمنعه من القيام بالأمر نفسه في وطنه؟ وهل يمتلك صانعو القرار شجاعة الاعتراف بأن المشكلة ليست في "ذكاء اللبناني" ولا في "إبداعه"، بل في نموذج حكمٍ كامل يحتاج إلى إعادة تأسيس، حتى لا يبقى لبنان في مؤشرات العالم بلدا يتقدّم في الأرقام… ويتراجع على الأرض؟ 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد