اوراق مختارة

استراتيجية الأمن القومي الأميركي: تجديد «مشروع الشرق الأوسط»

post-img

مريم رضا خليل/ جريدة الأخبار

صدرت استراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب عن البيت الأبيض، وجاءت في وثيقة مؤلفة من 33 صفحة، لتشكّل تفسيرًا رسميًا ومتكاملًا للرؤية العالمية التي تنطلق منها سياسة ترامب الخارجية.

لا يشكّل الطرح رؤيةً مغايرةً لنهج الولايات المتحدة في التعاطي مع قضايا الشرق الأوسط، بمقدار ما أنّه يعدّ تطويرًا لهذه الرؤية وتجديدًا لكيفية التعامل مع ملفات المنطقة. وتاليًا، لا تمثّل الاستراتيجية اعترافًا بـ«خطأ قديم»، كما يرى البعض ممّن يجمّل الاستراتيجية -عن قصد أو غير قصد- ويجعل منها نقطة إيجابية في سجل الإدارة الجديدة. الواقع مغاير كليًّا، فالاستراتيجية المطروحة تؤكّد نوايا واشنطن العدوانية تجاه المنطقة؛ العدوانية على الطريقة «الناعمة» حيث القوة الذكيّة باتت «متعددة الأوجه»، أكثر مرونة لكنها أشدّ فتكًا.

الاستراتيجية تؤكد المطامع الأميركية في المنطقة لكن تغيّر النطاق والاتجاه. سابقًا، نظرت الاستراتيجية الأميركية إلى المنطقة بأنها «أهم مورّد للطاقة في العالم»، إذ سعت لسنوات إلى نقل الثروات منها في هذا المجال باتجاه العالم، ولكن اليوم، ومع «تنوّع إمدادات الطاقة بشكل كبير» و«إلغاء أو تخفيف سياسات الطاقة المقيّدة من قبل هذه الإدارة وزيادة إنتاج الطاقة الأميركي» وبعد أن «أصبحت الولايات المتحدة مرة أخرى مصدّرًا صافيًا للطاقة»، عدّلت الاستراتيجية الجديدة آليات الهيمنة وزوّدتها بمفردات برّاقة.

المنطقة في عيني رجل الأعمال تبرز كـ«مكان للشراكة، والصداقة، والاستثمار»، ما يعني أنّ الهدف هو تحويل المنطقة إلى سوق استثماري دولي ومركز جاذب للاستثمارات الدولية في «قطاعات تتجاوز النفط والغاز، لتشمل الطاقة النووية والذكاء الاصطناعي والصناعات الدفاعية»، ما يدرّ الأرباح والأموال مباشرة إلى الخزينة الأميركية. وتمتدّ المطامع الأميركية في الاستثمار إلى أفريقيا تحت عنوان: التعاون مع دول المنطقة وتأمين سلاسل الإمداد وتعزيز أسواق «صديقة ومفتوحة».

تظهر النوايا الأميركية في مجموعة المصالح الأميركية التي حدّدتها الاستراتيجية المعلَنة، علمًا أنها تؤكّد أن مطامع واشنطن لم تتغيّر، فهي ثابتة ومركزية في الفكر الأميركي الاستراتيجي، وإنما باتت أكثر انتهاكًا واستباحة لسيادة المنطقة. المصالح المحدَّدة تتمحور حول نقطتين بالغتي الخطورة: الأولى توسعة «اتفاقات أبراهام وأن تبقى إسرائيل آمنة»، والثانية القضاء على معوقات المشروع الأميركي في المنطقة. لماذا نقول «القضاء»؟ لأن الغايات تتضح مع ما ورد من مصالح بالقول: «ضمان عدم وقوع إمدادات الطاقة الخليجية في أيدي عدو صريح، وأن يبقى مضيق هرمز مفتوحًا، وأن يظلّ البحر الأحمر صالحًا للملاحة، وألا تكون المنطقة حاضنة أو مصدّرة للإرهاب ضد المصالح الأميركية أو الوطن الأميركي».

بناء عليه، تصبح الدول ذات السيادة والجماعات المقاومة أمام خيارين أميركيين لا ثالث لهما: إمّا الدخول في الفلك الأميركي وإمّا التهديد الوجودي. التهديد الذي تراه إدارة ترامب ضرورة للمعالجة «الأيديولوجية والعسكرية».

الرؤية الجديدة هي نسخة معدّلة عن مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي طرحه بيريز عام 1993، وحاولت تنفيذه الإدارات الأميركية كل على طريقتها، فعملت على تعديله وتطويره بحسب متغيرات كل مرحلة. والهدف ما يزال كما هو، أن يصبح الكيان محور المنطقة اقتصاديًّا وأمنيًّا، وكل الدول الأخرى توظّف إمكاناتها بهذا الاتجاه، وتمدّه بالحياة والاستمرارية وتخفف الأعباء عن واشنطن، بينما مَن يتمنّع يكون «من خصوم واشنطن».

إذًا، الطرح ليس جديدًا، فمنذ عقود والمنطقة في صراع نتيجة محاولات فرض الهيمنة الأميركية على مستقبلها وتأطير مساراتها، ومنع استقلالية قرارها. واليوم، الاستراتيجية تمثّل نقطة التفاف على فشل المحاولات السابقة بالاستفادة من مبدأ «فرق تسد» في الاختراق الثقافي والاقتصادي لدول المنطقة باتجاه بناء هوية منصهرة، لا مجرد متماهية مع المشروع الصهيو-أميركي، الهدف الذي تصقله التحالفات باسم الاستثمارات فيما هي «عقود توظيف» تبادر وتباشر دول المنطقة بموجبها بالمهمات الأميركية، وبشكل تلقائي وذاتي، وصولًا إلى مرحلة «الوظيفة العضوية البنيوية»، حيث لا يتخلّف الجزء عن الكل.

بالتوازي مع المسار الأيديولوجي، يبرز المسار العسكري في سياق استراتيجية الجزرة والعصا، فتتمظهر العقلية الاستعمارية التوسعية بطابع «حداثوي»، بـ«السلام عبر القوة»، وهنا تقع الإشكالية: كيف يُبنى السلام على الدم، بل ما هو شكل السلام الذي يقوم على الإقصاء والتهميش والإلغاء والإبادة؟ هناك شعوب في المنطقة تُصادَر قراراتها ورؤاها، ويُعد انتماؤها «جريمة»، فيراد منها «الطوعية» وإلا الحرب والقتل. فأين حق تقرير الشعوب لمصيرها؟ وأين حرّية التعبير؟ وأين الديموقراطية التي تقوم عليها أسس النظام الأميركي؟

الازدواجية المتنامية في السياسات الأميركية بحد ذاتها تقوّض قواعد النظام العالمي، وتغامر بمستقبل المؤسسات القانونية والدولية التي قام عليها نظام ما بعد الحرب الباردة وانتهاء القطبية الثنائية. وهذ الثغرة تؤكدها الاستراتيجية الجديدة بشكل واضح، لا سيّما إذا ما توقف القارئ عند السياسة الأميركية المطروحة للتعامل مع «الملكيات الخليجية»، حيث ورد في نص الاستراتيجية أن «واشنطن أخطأت في توبيخ هذه الدول [شركاء الشرق الأوسط] -وخاصة الملكيات الخليجية- لدفعها إلى التخلي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية»، فهم ملتزمون وفقًا للنص بـ«مكافحة التطرف»، وبأن «المفتاح للعلاقات الناجحة مع الشرق الأوسط هو قبول المنطقة، وقادتها، ودولها كما هي».

السياسة التي تقوم نظريًّا على مواجهة الأنظمة السلطوية لكن عملت لعقود على ترسيخها ودعمها عمليًّا تسخيرًا لها في خدمة مشاريع الهيمنة على المنطقة، تشهد تحوّلًا في الاستراتيجية الأخيرة لكن باتجاه ترسيخ شرعية تلك الأنظمة والاعتراف بـ«الخطأ في التعامل معها». هكذا، يتّضح معيار الازدواجية في «الاهتمام المشترك»: إمّا مع الرؤية الصهيو-أميركية للمنطقة أو ضدها؛ ما يترتّب عليه أنّ الاستراتيجية الحالية أخرجت للعلن القواعد الجديدة للنظام العالمي وفقًا للرؤية الترامبية، وأعطتها صبغة أكثر رسميّة، فالتشريع للقتل بات باسم «السلام»، ومشروعية الأنظمة رهن بالولاء. المسار الذي يتهدّد قواعد السياسة العالمية الحاكمة أكثر فأكثر.

تعزّز استراتيجية الأمن القومي الجديدة رؤية رجل الاستثمار والربح السريع؛ الأمر الذي يفسّر إحياء مشروع «الشرق الأوسط الجديد» وتسارع الحركة الأميركية في استغلال المكاسب الميدانية واختلال موازين القوى باتجاه فرض خارطة إقليمية جديدة يتغيّر معها تموضع نقاط السيطرة والنفوذ الجيوسياسي بما يحفظ أولوية المصالح الأميركية. بيد أنّ الإدارة الأميركية تدرك أنّ المشروع الذي لا بدّ من تطبيقه لتحقيق أهدافها في «امتصاص» ثروات المنطقة وملء الخزينة الأميركية دونه معوّقات أصيلة؛ هي «جماعات متمردة» في القاموس السياسي الأميركي، لكنّها سكان الأرض وشعوب المنطقة المؤمنة بأنها صاحبة الحق في تقرير مصيرها ومصير أبنائها، وأنها لن تسمح بأن تستعيد «الإمبراطورية الأميركية الآفلة» انتعاشها وإحياء مواردها، على حساب وجودها، وفي الحدّ الأدنى ليس بثمنٍ بَخْس.

هذا الأمر يفسّر وجود تناقض نسبيّ في الطرح نفسه وتجاذبًا متعاكسًا في الواقعية المطروحة، فالأميركي يراهن على تقييمه لواقع الأطراف التي دائمًا ما شكّلت عقبة أمام المشروع الأميركي في المنطقة، ويريد أن يفرض واقعًا جديدًا لكنه نظّر لاستراتيجيته بناء على الاستمرار بالنظر إلى الصراع على أنه بمثابة «السمة الأكثر تعقيدًا في المنطقة»؛ وأنه العامل الباقي في حفاظ الولايات المتحدة على المنطقة في مقدمة أولوياتها.

بالنتيجة، تقف الإدارة الأميركية أمام استحقاق التوفيق ما بين معالجة «التهديدات» الباقية -على حد تقييم الاستراتيجية عندما اعتبرت أن التهديد في المنطقة بات أقل- وعدم «هيمنة المنطقة على السياسة الخارجية الأميركية، سواء في التخطيط الطويل المدى أو في التنفيذ اليومي»، وفقًا لطموحات إدارة ترامب.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد