فادي الحاج حسن/ كاتب لبناني
في الرابع عشر من ديسمبر/ العام 2025، أفاق العالم على حادثة سيدني الأسترالية، والتي أسفرت عن مقتل نحو 15 شخصا وإصابة العشرات، بينهم مبعوث حركة "حاباد-لوبافيتش" الحاخام إيلي شلانغر. هذه الحادثة لم تكن حادثًا معزولًا، هي نتيجة مباشرة ومرآة تعكس الأثر الكارثي للسياسة الإسرائيلية المجرمة والمعتدية والقاتلة في فلسطين ولبنان. إنها تجسيد مروع لـتأثير الارتداد الذي يضرب الجماعات اليهودية في العالم؛ جراء الإصرار الصهيوني على ارتكاب الجرائم ضد الإنسانية تحت غطاء "الدفاع عن النفس" المشبوه.
السؤال الذي يفرض نفسه بقوة؛ ليس عن دوافع مرتكبي هذا الهجوم، بل عن المسؤول الحقيقي الذي خلق البيئة العالمية التي سمحت بوقوعه. إنها حكومة الاحتلال الإسرائيلي، وكل من يساعدها ويدعمها في اعتداءاتها السافرة على الإنسانية. هذا المقال يهدف إلى تحليل هذه الأحداث وفقًا لنظريات الحراك الاجتماعي وعلم الاجتماع السياسي، مؤكدًا أن حق الشعوب في الدفاع عن نفسها ووجودها بالأساليب الممكنة كافة هو المبدأ الذي يحكم ردود الفعل العالمية على الإجرام الصهيوني.
1. الصدمة الأخلاقية العالمية وحق المقاومة
تُقدم نظريات الحراك الاجتماعي، وخاصة نظرية "الصدمة الأخلاقية" (Moral Shock)، الإطار الأمثل لفهم كيف تجيش السياسة الإسرائيلية الشعوب ضدها. الصور والمقاطع المرئية التي تتدفق من غزة ولبنان، والتي توثق القتل الممنهج للأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير البنى التحتية المدنية، ليست مجرد أخبار، هي صدمة أخلاقية تُحفز التعبئة العالمية.
هذه الجرائم الإسرائيلية، والتي تُرتكب بدم بارد وتُبث على الهواء مباشرة، تُعد موارد رمزية قوية تُغذي الغضب وتُشرعن المقاومة. إذ إنّ الحراك العالمي المناهض للسياسات الإسرائيلية، والذي يتخذ أشكالًا مختلفة من الاحتجاج السلمي إلى المقاطعة (BDS)، يجد في هذه السياسات الإجرامية مسوغًا أخلاقيًا لوجوده.
في هذا السياق، لا يمكن فصل ردود الفعل مثل هجوم سيدني عن سياقها الأوسع، وهو انتقام للإنسانية من وجهة نظر مرتكبيها. إنها نتيجة حتمية لسياسة القتل التي تمارسها إسرائيل، والتي تصر على دمج الهوية اليهودية بالصهيونية السياسية. إن حق الشعوب في الدفاع عن نفسها ووجودها، والمنصوص عليه في القانون الدولي ومبادئ العدالة الإنسانية، يمنح شرعية للمقاومة بأشكالها كافة ضد الاحتلال والعدوان، ويجعل من أي عمل عنيف ضد ممثلي أو داعمي هذا العدوان، وهو نتيجة منطقية لسياسة القتل الإسرائيلية.
2. تسييس الهوية وفخ الدعم للإجرام
يُحلل علم الاجتماع السياسي كيف تؤثر سياسات الدولة في الهويات الجماعية، وهو أمر تجد تطبيقه في الدور الإجرامي للحكومة الإسرائيلية في تسييس الهوية اليهودية. عملت حكومات الاحتلال الإسرائيلية المتعاقبة على دمج الهوية اليهودية الدينية والتاريخية بالهوية الصهيونية السياسية، بهدف حشد الدعم العالمي لجرائمها.
يلغي هذا التسييس التمايز بين "معاداة السامية" و "نقد السياسات الإسرائيلية"، ويُحوّل كل يهودي في العالم، شاء أم أبى، إلى ممثل أو شريك مفترض في هذه الجرائم. هذا هو جوهر تأثير الارتداد (Boomerang Effect). إذ إن العنف والظلم الذي تمارسه إسرائيل ضد الفلسطينيين واللبنانيين يرتد عنفًا مضادًا يستهدف الجماعات اليهودية، في مختلف دول العالم، وقد يتطور ليطال داعمي هذا الكيان المجرم كلهم.
إذ لا يقتصر الإجرام على الحكومة الإسرائيلية وحدها، هو يمتد ليشمل الدول والمنظمات كلها التي توفر لها الغطاء السياسي والدعم المالي والعسكري. إن هؤلاء الداعمين هم شركاء فعليون في الجريمة، وهم من يُسهمون في خلق بيئة عالمية معادية لليهودية. إنهم يدفعون اليهود، في العالم، إلى فخ أن يكونوا هدفًا مشروعًا في الدفاع عن النفس ضد العدوان، ويتطلب استهداف كل من يمثل أو يدعم هذا العدوان. إن استهداف حركة "حاباد"، في سيدني، وهي حركة دينية غير سياسية في جوهرها، يُظهر مدى نجاح السياسة الإسرائيلية في تسييس كل ما هو يهودي وتحويله إلى هدف للانتقام.
3. الجيوسياسة والأخلاق في تآكل الشرعية الدولية وتجريم المعتدي
على المستوى الجيوسياسي، استمرار السياسات الإسرائيلية الإجرامية، والتي تُعدّ انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي والإنساني، يؤدي إلى تآكل غير مسبوق في ما يسمونه "شرعية إسرائيل" على الساحة العالمية. هذا التآكل ليس مجرد مسألة دبلوماسية، هو تحول عميق في الوعي الجمعي العالمي. إذ إن التحول الأخلاقي وفقًا للنظريات الأخلاقية والنفسية، حين يجري الإفراط في استخدام القوة وقتل المدنيين يُحدث تحولًا نفسيًا عند الشعوب. إذ لم تعد الشعوب تنظر إلى الصراع على أنه قضية سياسية معقدة، بل هو قضية أخلاقية بسيطة: القتل ضد الإنسانية. هذا التبسيط الأخلاقي يُجيز تسويغ العنف المضاد، مثل "انتقام للإنسانية".
يتزامن إن هذا التحول الأخلاقي مع فشل المؤسسات الدولية في فرض القانون والعدالة. إذ عندما يرى العالم أن مجلس الأمن والأمم المتحدة عاجزان عن وقف الإجرام الصهيوني أو محاسبة المسؤولين عنه، ينشأ فراغ في الشرعية الدولية. هذا الفراغ لا يملأه سوى الغضب الشعبي، والذي يتجه نحو أهداف رمزية. إن عجز النظام العالمي عن تحقيق العدالة في فلسطين يُعد سببًا مباشرًا في تجيش الشعوب ضد الجماعات اليهودية في العالم، فيُنظر إلى هذه الجماعات، بشكل خاطئ ومجحف، على أنها المستفيد أو الداعم الصامت لهذا العجز.
4. في النظريات النفسية التجريد من الإنسانية أداة للعدوان
إن استمرار سياسة القتل الإسرائيلية في فلسطين ولبنان يعتمد، بشكل أساسي، على عملية التجريد من الإنسانية (Dehumanization) للضحايا الفلسطينيين. هذا التجريد، والذي يُروّج له الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي، يُسهّل على الجنود والمواطنين تقبّل أعمال العنف المفرط، بما في ذلك قتل الأطفال والمدنيين، على أنهم مجرد أهداف أو تهديد، وليسوا كائنات بشرية لها حقوق وكرامة.
هذا التجريد من الإنسانية، والذي يُمارس على نطاق واسع، يُترجم في المستوى القانوني والأخلاقي في سياسة العقاب الجماعي (Collective Punishment). الشعوب في العالم، والتي تتلقى هذه الصور والمعلومات، تُدرك بفطرتها الأخلاقية أن هذا انتهاك صارخ للمبادئ الإنسانية الأساسية.
يضع رد الفعل العالمي على هذه السياسات الجماعات اليهودية في العالم، في "فخ التكافؤ الأخلاقي" (Moral Equivalence Trap). هذا الفخ هو نتاج مباشر لخطاب الحكومة الإسرائيلية الذي يصر على أن كل يهودي هو جزء من مشروعها، ما يمنح المناهضين للعدوان الإسرائيلي حق مشروع في مهجماتهم على أساس سياسي، فهم لا يهاجمون اليهود لكونهم يمثلون "الدين اليهودي"- مع أن هناك جدلية قائمة في أن اليهودية دين- بل يهاجمون ممثلي الكيان الصهيوني المجرم.
وقف الإجرام الصهيوني هو الطريق الوحيد للسلام والأمن
لا بد أن تعد هذه الحادثة جرس إنذار مدوٍ. إنه يؤكد أن سياسات القتل الإسرائيلية لا تُهدد الفلسطينيين واللبنانيين فحسب، بل تُعرّض للخطر حياة الجماعات اليهودية في كل مكان. إن الإجرام الصهيوني، والذي يرتكب باسم "الدفاع عن الشعب اليهودي"، هو في حقيقة الأمر أكبر تهديد لوجود هذا "الشعب" في العالم.
إن الحل الوحيد لوقف هذا التدهور الأخلاقي والجيوسياسي هو الوقف الفوري للإجرام الصهيوني في فلسطين ولبنان، وإسقاط هذا الوجود السرطاني لهذا الكيان الإسرائيلي الغاصب والمتوحش، وكل من يدعمه ويموله في جرائمها ضد الإنسانية.
يجب على العالم أن يعترف بحق الشعوب المضطهدة في الدفاع عن نفسها ووجودها بالأساليب الممكنة كافة، وأن يرفض محاولات حكومة الاحتلال الإسرائيلية تسييس الهوية اليهودية. إن وقف العدوان الإسرائيلي ليس فقط واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا، بل هو ضرورة أمنية لحماية الانسانية في بقاع الأرض كلها من تأثير الارتداد الكارثي لسياسات القتل التي لم تعد الشعوب تتحملها.