اوراق مختارة

هل يمكن لطفلٍ يحمل أقلام تلوين أن يساهم في تعافي مجتمع؟

post-img

صحيفة الأخبار

في محافظة بعلبك - الهرمل، التي تُعدّ من بين المناطق الأكثر تهميشاً في لبنان، تتعايش تجمعات كبيرة من اللاجئين السوريين مع المجتمعات المضيفة في ظل تداعيات الحرب السورية والانهيار الاقتصادي، والغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة التي زادت من تعقيد المشهد، بحيث يولد أطفال هذا الواقع في بيئة مشبعة بالخوف وعدم اليقين، ويجدون في الرسم وسيلةً للتعبير عن مشاعر يصعب قولها.

انطلقت فكرة الرسم خلال نقاش مجتمعي بين فرق منظمة «أطباء بلا حدود» وعدد من العائلات السورية واللبنانية. حينها، سأل طفل بخجل: «هل يمكننا أن نرسم؟ نريد فقط أن نرسم». هذا السؤال البسيط تحوّل إلى مدخل لعشرات الجلسات التي أصبحت جزءاً ثابتاً من عمل الفرق النفسية في عيادات الهرمل وعرسال، ضمن أنشطة الدعم النفسي الاجتماعي.

في تلك البيئة، يعاني الأطفال من اضطرابات النوم، والقلق، والانطواء، وتبدلات سلوكية حادّة، نتيجة ما يصفه الاختصاصيون بانعدام الأمان المزمن. وفي الوقت الذي ينشغل فيه البالغون بتأمين أساسيات الحياة، يعجز الأطفال عن فهم ما يمرّون به أو التعبير عنه.

ما الذي تكشفه الرسومات عن وضع الأطفال النفسي؟

رسم كثير من الأطفال منازل لم يعودوا يعيشون فيها. وغالباً ما بدت هذه البيوت أكبر حجماً، وأكثر إشراقاً، وأكثر تفصيلاً من محيطهم الحالي. ورسم آخرون أشجاراً وحدائق وحيوانات وسماءً مفتوحة. وعند النظر إلى هذه الرسومات مجتمعةً مع كلمات الأطفال وسردياتهم والسياق الأوسع لتجاربهم، يتّضح أنها تعبّر عن حنين، لكنه ليس حنيناً إلى مكان فحسب، بل شوقاً إلى الأمان وإلى الإحساس بإمكانية توقّع ما قد يأتي، وإلى الشعور بالانتماء، إلى مشاعر تطمسها الحرب والنزوح بصورة مفاجئة.

الحنين، في هذا السياق، لا يقتصر على الماضي فحسب. فبالنسبة إلى الأطفال، يعدّ عامل استقرار يساعدهم على الحفاظ على إحساسهم بالهوية وسط الاضطراب. ومن خلال رسم مشاهد مألوفة، يتمكّن الأطفال من إعادة الاتصال بذكريات الرعاية والأسرة والاستقرار، وهي عناصر أساسية لتنظيم المشاعر وبناء القدرة على الصمود.

في الوقت نفسه، تضمّنت رسومات أخرى صورًا ترتبط غالباً بالخوف وفرط اليقظة: طائرات مُسيّرة في السماء ورجال يحملون الأسلحة، وغيومٌ داكنة أو مساحات مقسومة. وغالباً ما ظهرت هذه الصور إلى جانب مشاهد هادئة، بما يبيّن كيف يتعايش الخوف والأمل في العالم الداخلي للطفل.

تقول مديرة أنشطة الصحة النفسية في «أطباء بلا حدود»، غليكيريا كوكولياتا، إن هذه الرسومات تُظهر التداخل بين مشاهد الطمأنينة وصور الخوف، وهي ازدواجية مألوفة في وجدان الأطفال الذين عايشوا النزاع.

وتستحضر كوكولياتا رسمة أنجزتها حميدة، طفلة سورية في الثالثة عشرة، حيث رسمت شجرة توت كبيرة وقالت: «هذه شجرتنا الكبيرة والجميلة في القرية التي غادرناها عندما جئنا إلى هنا... كان والدي يهزّ الشجرة، فنركض أنا وإخوتي لنجمع التوت من الأرض... لا بدّ أن الشجرة قد جفّت الآن».

توضح كوكولياتا أنّ هذه الذكرى، بما تحمله من صور حسيّة وارتباط عاطفي بمقدّم الرعاية، ليست مجرّد حكاية، بل «عملية وجدانية تساعد الطفل على تصنيف الفقد والحزن ضمن سياق مفهوم ومُحتوى».

وفق إفادات الأهل، لاحظ كثيرون تحسّناً ملحوظاً في نوم الأطفال، وانفتاحهم في الحديث، وتراجع النوبات السلوكية. كما بدأ بعض مقدّمي الرعاية بفهم السلوكيات التي كانوا يعتبرونها «سوء تصرّف» بوصفها علامات ضيق نفسي.

في مجتمع يعيش معظمه الألم بصمت، ويحيط الصحة النفسية بوصمة ثقيلة، باتت أقلام التلوين أداة لكسر حاجز الخوف من البوح. وفي هذه المنطقة التي تجمع بين الجمال والمعاناة، تكشف الرسومات أن الأطفال، حتى في أعقاب الفقدان، ما زالوا قادرين على التخيّل والتذكّر والأمل. وأحياناً، لا يكون إعطاء طفل قلم تلوين مجرّد لفتة بسيطة، بل الخطوة الأولى نحو أن يُسمَع صوته، ونحو تفكيك جدار الوصم الذي شُيّد حول الصحة النفسية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد