قد يكون من المناسب فعلًا إيجاد شيء من التحقق العلمي لتبيان حقيقة المواقف والتحولات العالمية في ضوء مجريات الأحداث في أوكرانيا من حيث كونها تشكل عنصر ضغط بارزًا يمكن البناء عليه في تظهير المواقف الاستراتيجية.
المسألة لم تعد مجرد تساؤلات أو ترجيحات حول إمكان حدوث حرب، أو عدم وقوعها وفقًا لتكهنات سياسية، على أساس أن الموقف الاستراتيجي في ما يتعلق بالكيان الصهيوني والحكم عليه من حيث ما استجد من أحداث بعد طوفان الأقصى، لم يترك أمامه من خيارات سوى أن يبدأ الحرب، أو أن يموت ببطء. وهذا ما يفترض على مراكز البحوث والدراسات أن تجيب عليه، لا أن تتفاعل مع التوقعات. وقد علمنا من سنن التاريخ الحاكمة أن إيقاعات الأحداث لا تخلق بالصدفة، وإنما لها أسبابها وظروفها التي تحتم في كثير من المراحل حسم المواقف وفقً لمعادلات علمية دقيقة، وأهل التأريخ يدركون جيدًا معنى ضيق المخارج في التحولات التاريخية. وهنا يطرح السؤال الجوهري: هل ضاقت المخارج على الكيان الصهيوني، وبات أمام معضلة وجودية، أم أنه لا يزال قادرًا على تجديد نفسه بما قد يتوفر له من فسحات دعم من أكثر من جهة عالمية؟
إن أحدًا في العالم لا يمكنه إثارة الشكوك عن ما آل إليه هذا الكيان بعد طوفان الأقصى من ضعف وترهل وجودي واستراتيجي، فهذه ثابتة من الثوابت التي يمكن الركون إليها في الإجابة على كل الأسئلة المتعلقة بوجود هذا الكيان. ويكفي الباحث السياسي التدبّر بمآلات الأحداث بعد تسعة أشهر من الحرب لاستخلاص ثوابت كثيرة يمكن أن تكون لها حاكمية السنن التي لا تتخلف فيها النتائج عن المقدمات.
إذا كان الاستعمار الغربي قد احتل فلسطين في لحظة غياب ديني وتاريخي وسياسي، فإن لحظة الحضور كفيلة بأن تزيل هذا الكيان على نحو ما هو قائم اليوم من وجود قوى ودول وشعوب تستحضر فلسطين، وتعمل على تحريرها؛ فسواء اختار العدو الحرب أم الهدنة، فهو مسكون بتداعيات الهزيمة الوجودية. ويكفينا من ذلك أن نعي حقيقة ترهل الغرب عن نصرته، لكثرة ما يحيط به من عوامل قاهرة تدعوه إلى الحرب، وتثبت له أن مقدمات وجوده في فلسطين قد اختلفت جوهريًا عما أحدثه محور المقاومة من مقدمات.
المنطق العقلي، وكذلك التحقق العلمي، يثبتان أن العدو أصبح أمام مأزق وجودي يلزمه، سواء أكان قادرًا على الحرب، أو لم يكن قادرًا عليها، اختيار الحرب، لأن طبيعة المأزق تفرض ذلك، وليس لأن العدو يريد الحرب. لا طائل من التكهنات السياسية، كما أنه لا قيمة لكل التساؤلات الصحفية،أو الإعلامية، أن الإقليم يعيش التأرجح بين الحرب أو اللاحرب، فكل شيء مأخوذ بأسبابه. وقد سبق لأهل الأديان أن تعايشوا مع أحداث مثل أحداث عالمنا، ولم تكن النتائج معلومة لديهم مسبقًا، بل كانت تفرض عليهم فرضًا، كما جرى في معركة بدر الكبرى مع رسول الله (ص)، وكما جرى مع السيد الخميني (قد) في إيران، وكما جرى لـــ"إسرائيل" نفسها حين أخذ بها طوفان الأقصى إلى خيارات ما كانت لتختارها لو أنها خيّرت بها قبل ذلك.
على أهل السياسة أن يعلموا أن الغيب في الأحداث والتحولات، هو شريك فاعل في صناعة المواقف، ولا بد أنه شريك في الحرب الكبرى والتحول الأخير في عالمنا….؟