اوراق خاصة

هل نجحت الاستهدافات في لبنان؟

post-img

الاغتيال هو من الغلَ والكراهية الشديدة؛ مصطلح يستعمل لوصف عملية قتل منظّمة ومتعمّدة تستهدف شخصية مهمة ذات تأثير فكري أو سياسي أو عسكري أو قيادي، ويكون هدفه لدوافع عقدية أو سياسية أو اقتصادية أو انتقامية تستهدف شخصًا معينًا يراه منظمو عملية الاغتيال عائقًا لهم في طريق تحقيق أهدافهم. ولطالما كانت عمليات الاغتيال السياسي جزءًا من الصراعات طوال التاريخ؛ بهدف إيجاد حل ناجع لتأزم وضع المنفذ، كي تعقّد الأمور ويدخل العدو أو الخصم فى نفق مظلم. وعمومًا؛ النتائج تكون غير مضمونة؛ إضافة إلى إشكاليات قانونية وأخلاقية هذه الوسيلة بحد ذاتها.

تاريخ الاغتيالات الإسرائيلية

في العصر الحديث؛ يُسجل للكيان الصهيوني المرتبة الأولى في ارتكابه هذا الفعل الشنيع- وفي المرتبة الثانية الولايات المتحدة- والذي عادة لا يلجأ إليه إلا المأزوم. إذ طوال عقود نفذت "إسرائيل" عمليات اغتيال منظمة. ويذهب أولدريش بوريس وأندرو هوكينز في دراسة شاركا في كتابتها بعنوان "عمليات القتل المستهدف الإسرائيلية قبل الانتفاضة الثانية وخلالها- مقارنة سياقية" إلى أن أول عمليات الاغتيالات الإسرائيلية حدثت بعد تأسيس دولة الاحتلال في العام 1956، استهدفت مصطفى حافظ ضابط الاستخبارات الحربية المصرية في قطاع غزة وصلاح مصطفى الملحق العسكري المصري في الأردن انتقامًا من دورهما في دعم الفدائيين الفلسطينيين أنذاك؛ حيث كانا ينفذان أوامر جمال عبد الناصر في تدريب كوادر المقاومة الفلسطينية.

هذا ما عكس استمرار دولة الاحتلال في سياسة الاغتيالات التي اعتمدتها العصابات الصهيونية قبل العام 1948، كما حدث في اغتيال عصابة شتيرن لللورد موين وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط في مصر في العام 1944، لدوره في التسوية بين العرب واليهود في فلسطين، والكونت فولك برنادوت المبعوث الأممي للقضية الفلسطينية، والذي اقترح في خطته للسلام في 27 يونيو/حزيران 1948 بقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فروا من القتال أو طردتهم المنظمات اليهودية إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم، فاغتيل في 17 سبتمبر/أيلول 1948م على يد منظمات صهيونية.

كما لا يمكن نسيان عملية "غضب الرب" بعد أولمبياد ميونيخ في العام 1972، بأمر وترتيب من وزيرة الخارجية الصهوينة غولدا مائير ردًا على قتل مقاومين فلسطينيين من منظمة "أيلول الأسود" 11 رياضيًا إسرائيليًا، وهي عملية تحولت أحداثها إلى فيلم سينمائي بعنوان "21 ساعة في ميونيخ"، للمخرج الأميركي الأشهر ستيفن سبيلبرغ. وتطوّرت هذه الاستراتيجية مع استهداف "إسرائيل" أبرز قادة حركات المقاومة في فلسطين ولبنان؛ خصوصًا بعد عملية "طوفان الأقصى"، والتي أعادت إلى الأذهان عملية "ميونخ"، وهو ما تجلى، من دون أي لبس، في تصريحات رئيس جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (شاباك) رونين بار الذي لوّح بملاحقة حركة حماس في "كل مكان، والقضاء عليها حتى لو استغرق الأمر سنوات"، مستذكرا رد فعل "إسرائيل" بعد عملية ميونخ الفلسطينية.

لقد تراكمت سياسة الاغتيالات الإسرائيلية عبر عقود طويلة ركزت بشكل شبه حصري قبل الانتفاضة الثانية على تصفية القادة الكبار لفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية أو الكوادر التي تملك مهارات نوعية، وهو ما تغير منذ العام 2000 ليشمل تصفية القيادات الوسطى والعناصر المقاتلة بهدف وقف زخم الانتفاضة. وبحسب دراسة نشرها سيمون برات تتناول "تطور منطق سياسة الاغتيالات الإسرائيلية خلال انتفاضة الأقصى"، نفذ الاحتلال 134 عملية اغتيال أسفرت عن استشهاد 367 شخصًا ما بين أكتوبر/تشرين الأول 2000 ويوليو/تموز2007. وهي ما تزال تمارس هذه السياسة الإجرامية حتى اليوم، ولن يكون أخرها اغتيال الشهيد الأقدس سماحة السيد حسن نصرالله.

لكن جدير بالذكر أن "إسرائيل" قد لجأت، في العام 2002، إلى تشريع عمليات الاغتيال قانونيًا في سابقة على مستوى العالم، مع وضع ضوابط لم تلتزم كثيرًا بها، من قبيل أن يكون اعتقال الشخص المستهدف أمرًا غير ممكن عمليًا، وعدم تنفيذ اغتيالات داخل فلسطين المحتلة، والالتزام بمبدأ التناسب في تنفيذ الاغتيال لتجنب إيقاع أضرار جانبية، واشتراط موافقة رئيس الوزراء ووزير الحرب.

دوافع الاغتيالات الإسرائيلية

تبنت "إسرائيل" سياسة الاغتيالات لتحقيق عدة أهداف تختلف بتنوع الشخصيات المستهدفة، ومن أبرزها:

  1. الانتقام وتعزيز الردع بإيصال رسالة بأن يدها تطال أي شخص يعمل ضدها، ولا تنسى ولا تغفر لمن يقتل "الإسرائيليين".
  2. رفع الروح المعنوية للمستوطنيين وتعميق شعورهم بأن حكومتهم تدفع عنهم التهديدات، وتنال من كل من يهدد أمنهم.
  3. إضعاف فاعلية فصائل المقاومة بوضع القيادات والكوادر الفاعلة تحت ضغط الاستهداف في أي وقت، فيشددون إجراءاتهم الأمنية ما يقلل من مساحة حركتهم واتصالاتهم، ويحدّ من فعاليتهم.
  4. حرمان المقاومة من الشخصيات الموهوبة التي تمتلك قدرات ومهارات تراكمت، مع مرور الوقت، ولا يمكن نقلها بسهولة إلى الآخرين.
  5. المراهنة، في بعض الحالات، على إضعاف الجماعات التي اغتيل قادتها في صنع فجوة قد تقود لخلافات داخلية وانقسامات بعد غياب القائد الفذ الذي تلتف حوله.
  6. رفع ضريبة العمل المقاوم ضد الاحتلال بهدف ترهيب المجتمع، ودفعه للابتعاد عما يجلب ردود فعل إسرائيلية انتقامية.

فشل استراتيجية الاغتيالات

انقسم المحللون والخبراء إزاء هذه الاستراتيجية؛ فمنهم من يرى جدواها في إيقاف اندفاع حركات المقاومة، ويؤخرها إلى أجيال قادمة كي تحظى بقيادة جديدة تحقق لها الإنجازات. أهم روّاد هذا الرأي بعض المحللين "الإسرائيليين" والأميركيين والعرب. إذ إثر عمليتي اغتيال إسماعيل هنية رئيس المجلس السياسي لحركة حماس والقائد الجهادي لحزب الله السيد فؤاد شكر رأوا أنهما كانتا ضروريتين لإستعادة قدرة "إسرائيل" على الردع والثقة بالنفس، والتي تراجعت بشدة في أعقاب عملية "طوفان الأقصى" المفاجئة وغير المسبوقة في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

لكن هذا الرأي أثبت عدم صوابيته مع جماعات المقاومة ذات العقيدة الدينية الملتزمة. إذ عند تحليل نهج الاغتيالات الإسرائيلية نجد نتائجها في إحداث معايير تكتيكية، وغالبًا ما يكون لها آثار إستراتيجية سلبية على الاحتلال. وذلك؛ لأن عقدة "إسرائيل"، في تعاملها مع الحركات العقدية والأيديولوجية المتماسكة، هي أن الاغتيال السياسي لم ينجح في صناعة الفارق الاستراتيجي الذي أحدثته مع غيرها من الحركات عبر الاغتيالات. على سبيل المثال؛ فقد سُجّل لــــ"إسرائيل" دور في هندسة التحولات الداخلية في منظمة التحرير الفلسطينية مع سلسلة اغتيالات منتقاة منذ سبعينيات القرن الماضي، أدت لتحييد نوعية معينة من القادة، وإفساح الطريق لسيطرة قادة آخرين سهلوا تمرير اتفاق أوسلو في العام 1993. يُقاس على ذلك، أيضًا، الفارق الذي أحدثه اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات والانقلاب الجوهري في نهج السلطة بعد تولي الرئيس الحالي محمود عباس؛ فـــ"إسرائيل" لا تعد الاغتيال السياسي ناجحًا إلا إذا أدى لهكذا تحولات، وإلا بقي حدثًا عملياتيًا تكتيكيًا.

مشهد تشييع السيد عباس الموسوي في العام 1992

لكن مع حركة حماس المؤدلجة دينيًا، وبالرغم من كثافة الاغتيالات عدديًا للصف الأول من قادتها من المؤسس الشيخ أحمد ياسين إلى رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري، وبينهم سلسلة طويلة من الصف الأول، لم يحدث تحولات منهجية في الحركة، فكان تأثير الاغتيالات عليها إجراءً عملياتيًا محدودًا يرتبط بإعادة ترتيب أوراق تنظيمية لا أكثر، لا انقلاب داخليًا أو تغير جذريًا في المسارات، بل إنّ اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس أعقبه انتخاب، وبالإجماع، يحيى السنوار، بما معناه أنَّه لا يوجد في حماس إلا مدرسة واحدة وهي المواجهة المسلحة.

إزاء هذا الواقع؛ لا يضحي للاغتيال قيمة من الناحية الإستراتيجية، وتصريح رئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو  بأن: "استهداف الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله من شأنه أن يغير شكل الشرق الأوسط" استنتاج غير واقعي ومقارنة في غير مكانها الصحيح، وما هو إلا حدث موضعي غايته آنية. وخير مثال تحليل لصحيفة "هآرتس" كتبه الصحفي "الإسرائيلي" يوسي ميلمان بأن اغتيال قيادات من حماس وحزب الله سترفع من "معنويات الجمهور المكتئب الذي يعاني يوميًا حربًا رهيبة لا نهاية لها في الأفق".

كما يرى المحلل العسكري ألون بن ديفيد المقرب من قيادة جيش الاحتلال أنَّ "سياسة الاغتيال تقود إلى نتائج عكسية، فتعمل على "توسيع دائرة العنف"، ولن تقضي على من وصفهم بالإرهابيين الذين يستبدلون بآخرين أشد عزيمة وحماسة في مواجهة "إسرائيل" و"ربما تصبح أكثر قوة وتنظيمًا". وأفضل مثال يضربه بن ديفيد على ذلك هو حزب الله، معلقًا: "عند اغتيال عباس موسوي، أمين عام حزب الله السابق، وتولي نصر الله، تحول الحزب من جماعة صغيرة إلى جيش منظم". يشير أيضًا رونين بيرغمان، الصحفي الإسرائيلي، في كتابه الموسوعي "قم واقتل أولًا: التاريخ السري للاغتيالات الإسرائيلية المستهدفة" (Rise and Kill First: The Secret History of Israel’s Targeted Assassinations) إلى أنَّ "سياسة الاغتيالات نجحت في إزالة تهديدات مباشرة محددة، لكنها فشلت في توليد حل طويل الأمد لمعضلة الأمن الإسرائيلي".

إذ إن اغتيال الأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي(قده) ومعه ابنه وزوجه السيدة أم ياسر، في العام 1992، بقصف سيارته، لم يقضِ على قيادة صنع القرار، إنما استقدم قائدًا شابًا- آنذاك- هو السيد حسن نصر الله، والذي حوّل الحزب إلى الرقم الأول المؤثر في المشهد اللبناني ثم في المحيط الإقليمي لاحقًا. وفي الإطار الفلسطيني، لم يؤدِ اغتيال القائد يحيى عيّاش بتفجبر هاتفه الخلوي، في مطلع العام 1996، إلى تحطيم القدرات العسكرية لكتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، فقد تحوّل عيّاش إلى أيقونة للمقاومة الفلسطينية، وطوّرت القسام من قدراتها الأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى انتقامها من اغتيال عيّاش بتنفيذ 4 تفجيرات بعد شهرين من تصفيته، أسفرت عن مقتل 60 إسرائيليا وإصابة المئات، وهو ما أعاد وقتها للمشهد نمط العمليات الاستشهادية التي توقفت قبل الاغتيال نحو عام كامل، وأثبت أن "إسرائيل" لا تملك اليد العليا، وهي كما تضرب تُضرب.. وكذلك حدث في اغتيالات لاحقة؛ فأدت إلى تعزيز صورة حماس حركةً مقاومة يُستشهد قادتها وأفرادها في المواجهات، وهو ما أسهم بفوزها في انتخابات 2006 مما قاد في المحصلة إلى سيطرة حماس على قطاع غزة كله في العام 2007، ليتحقق خلاف إرادة قيادة الاحتلال من استراتيجية الاغتيالات.

تؤكد تلك العمليات أن صناع القرار الإسرائيليين يأملون تحقيق المكاسب من عمليات الاغتيال من دون تأمل السياق الاستراتيجي الأوسع ودروس التاريخ وبأن عدالة القضية ووجود حاضنة شعبية للمقاومة يؤديان إلى تحويل القيادات المغتالة إلى رموز للنضال، كما يدفعان باستمرار إلى تجديد الدماء وعنفوان المقاومة. وفي هذا يقول الخبير الاستخباراتي في صحيفة هآرتس "الإسرائيلية" اليسارية إن استشهاد السيد نصرالله لن "يغيّر قواعد اللعبة" إلا إذا أعقبته جهود دبلوماسية جديّة لوضع حد للقتال. ويضيف: "سيواصل حزب الله، بالرغم من الضربات الكبيرة التي تعرّض لها، استهداف شمال "إسرائيل".. وطالما القصف متواصل، لن يعود الأشخاص الذين أجلوا". وفي مقال رأي منفصل في صحيفة "هآرتس"، كتب ميلمان وهو مؤرخ ومحلل عسكري، أن العمليات التي ينفذها الجيش الإسرائيلي في غزة ولبنان تشير إلى أن سياسة الاغتيالات "أصبحت غاية في حد ذاتها".

كما يقول المؤرخ الإسرائيلي آلان بابيه، والمعروف بمواقفه ضد الصهيونية، بأن "هذا العنف الإسرائيلي ليس جديدًا فهو الوجه الدائم للصهيونية منذ تأسيس إسرائيل..لا يمكننا أن نتوقع التغيير من الداخل ما نحن بحاجة إليه كما قلت سابقا، وسأردده مرارا وتكرارا، نحن بحاجة إلى ضغط قوي من المنطقة ومن المجتمع الدولي إذا كنا نريد حقا أن ننهي معاناة الاحتلال والاستعمار".

في الختام؛

لقد أدى اغتيال السيد عباس الموسوي (قده) إلى تأسيس أول مشروع توطين حقيقي وجذري وكامل للمقاومة، مفهومًا وثقافة وممارسة، في الجزء العربي من منطقة غرب آسيا(الشرق الأوسط) منذ استعمار فلسطين مع استلام سماحة الأمين العام السيد حسن نصرالله قيادة حزب الله، والذي يثبت في كل حقبة تميز تجربته عن غيرها والتأييد الواسع لها من خارج البيئات اللبنانية والعربية والإسلامية. وما نشاهده ونسمعه من أصوات تنده بها حناجر تدعو لضرب "تل أبيب" إلا صدى لشعبية ثقافة المقاومة وأدائها..وبشهادة سماحته – رضوان الله عليه- سيكون نجاح المقاومة المدهش في إعادة إنتاج ممنهج لثورات عربية ستسخّر في المعركة الكبرى لتحرير فلسطين في مواجهة التحديات الجمة التي تضعها في طريقها أكبر قوى الإمبريالية الحالية.

الدليل الساطع على استمرار توهج تجربة حزب الله الانبهار الذي عبر عنه صحافيون غربيون كبار زاروا لبنان، مؤخرًا، لتغطية الحرب في ما يجري على جبهة الجنوب قولهم إنه بعد الضربات القاسية التي تلقتها المقاومة، سواء في بنيتها بضربات الأجهزة اللاسلكية وأجهزة المناداة ولاحقًا باغتيال القيادات العسكرية والأمنية وصولًا لاغتيال الرمز والقائد وحملات القصف المدمّر في الجنوب والضاحية والبقاع وموجات النزوح التي طالت بيئة المقاومة. ما ينجزه شباب المقاومة من ثبات واقتدار ونجاحات في الجبهة خارق للطبيعة وأقرب للمعجزة، ولم يسبق لهم أن رأوا مثله في حروب أخرى وفي ظروف أقل صعوبة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد