في الوقت الذي تمطر فيه الصواريخ الإسرائيلية على أرض غزة ولبنان، وتدور معارك شرسة تسرق فيها المقاومة اللبنانية أرواح جنود الصهانية على مختلف النقاط، تنخرط قوة جديدة غير مرئية في القتال. قوة لا تقل ضراوةً، في عالم الأصفار والآحاد عبر أسلاك الإنترنت. هنا، لا دبابات أو طائرات؛ بل برمجيات قاتلة، ثغرات رقمية خفية، وهاكرز محترفون يعملون في الخفاء. وفي هذا العالم الخفي، الهاكر ليس مجرد «مخرّب» رقمي؛ بل محارب مدجّج بالتقنية والتكنولوجيا، ينسج خيوط خططه بين تطبيقات غير متوقعة وبيانات متناثرة في الفضاء السيبراني. من تسريب معلومات حساسة تخصّ مسؤولين إسرائيليين إلى استخدام تطبيقات لياقة بدنية بمنزلة أدوات استخباراتية، تتطور الحرب أمامنا لتكشف عن وجه جديد. وجه لم يعد فيه شيء آمنًا أو بعيدًا من الاستهداف
لطالما كانت الحروب السيبرانية جزءًا من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إذ نشطت مجموعات هاكرز عالمية مثل «أنونيموس» في استهداف مواقع حكومية إسرائيلية خلال فترات التصعيد. أثناء العدوان على غزة عام 2014، أعلنت «أنونيموس» عن تعطيل عشرات المواقع الحكومية والمصرفية الإسرائيلية ضمن حملة #OpIsrael. وهدفت الهجمات إلى شل البنية التحتية الرقمية، وفضح الجرائم التي يرتكبها الاحتلال عبر نشر وثائق حساسة أو تعطيل قنوات الاتصال الرسمية. منذ عملية «طوفان الأقصى»، واستمرار آلة الموت الصهيونية في حصد الأرواح، تصاعدت الهجمات السيبرانية ضد كيان الفصل العنصري بشكل غير مسبوق. ويبدو أنّ نداء المتحدث العسكري باسم «كتائب القسّام»، أبو عبيدة، الذي دعا فيه أحرار العالم إلى الانخراط في المعركة الرقمية، قد لقي استجابة من بعض الجهات.
في 21 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، كشفت صحيفة «هآرتس» عن عملية قرصنة سيبرانية أفضت إلى تسريب معلومات حساسة عن مسؤولين كبار في «إسرائيل»، ونُشرت معلومات شخصية تتضمن رسائل بريد إلكتروني ومحادثات خاصة. وشملت التسريبات أسماء مثل النائب السابق لرئيس الأركان الإسرائيلي، يائير غولان، إلى جانب المتحدث الرسمي لـ «جيش» الاحتلال باللغة الفارسية، كمال بنحاسي. ونُشرت المواد على موقع مخصّص أنشأته مجموعة القرصنة، وروّجت له عبر قناتها على «تليغرام». كما كشف تقرير «هآرتس» أنّ إسرائيل تحاول ــــ عبر أدوات قانونية ـــــ الحد من انتشار المعلومات الحساسة المسرّبة، لكنها تواجه صعوبة في ذلك. في الوقت نفسه، تسعى الولايات المتحدة إلى تعقّب مجموعات القراصنة الأجنبية، وقد أصدرت أخيرًا لوائح اتهام بحق قراصنة إيرانيين وسودانيين لضلوعهم في عمليات إلكترونية تستهدف ديبلوماسيين ومسؤولين أميركيين وإسرائيليين.
لم تتوقف الهجمات عند الاختراقات المباشرة فقط، بل طالت تطبيقات الهواتف الذكية المستخدمة في الحياة اليومية. إذ كشفت تحقيقات استقصائية نشرها موقع صحيفة «لوموند» الفرنسية وصحيفة «هآرتس» في الأيام الماضية، عن عملية استخباراتية سيبرانية استُغلت فيها ثغرات برمجية في تطبيق Strava الشهير الذي يتابع النشاط الرياضي للأشخاص (تعداد الخطوات والأداء الرياضي بشكل عام) لتحديد مواقع عسكرية حساسة داخل «إسرائيل» بدقة بالغة. ووفقًا للتقارير الصحافية، أنشأ هاكر حسابًا زائفًا على التطبيق، وأوهمه بأنّه يمارس تمارين جري في مواقع عسكرية بالغة الأهمية في «إسرائيل»، ولا سيما قاعدتا سلاح الجو «حتسريم» و«تل نوف»، وقاعدتا سلاح البحرية في أسدود وإيلات، ووحدة التنصت 8200 في تل أبيب والقدس، بالإضافة إلى وحدة الاستخبارات العسكرية 504 في الشمال وغيرها بما يصل إلى 30 قاعدة ومنشأة. وعبر تحليل البيانات التي حصل عليها الهاكر، تمكّن من تحديد هويات مئات الجنود الإسرائيليين وعناوين منازلهم، بمن في ذلك أفراد من وحدات استخباراتية خاصة.
كذلك، شهد الكيان العبري هجومًا سيبرانيًا قبل أيام وفقًا لما نشرته صحيفة «جيروزلم بوست» العبرية، استهدف نظام المدفوعات. إذ تعرضت شركة «شِبا» Automated Bank Services، المسؤولة عن إدارة عمليات الدفع عبر شبكات البنوك والبطاقات الائتمانية، لهجوم من نوع حجب الخدمة DDoS، تسبّب في تعطيل جزئي وتأخير في معالجة المدفوعات عبر البطاقات، ما دفع عددًا من المتاجر إلى مطالبة العملاء بالدفع نقدًا. ويأتي هذا الهجوم ضمن سلسلة متزايدة من الهجمات الإلكترونية التي تستهدف البنى التحتية الحساسة في «إسرائيل»، بما في ذلك قطاعات الطاقة، والاتصالات، والمؤسسات المالية. تُستخدم هجمات حجب الخدمة لإغراق الخوادم Servers بطلبات ضخمة تعطّل وصول المستخدمين وتسبّب شللًا موقتًا.
تُعد هذه الهجمات جزءًا من خطّة أكبر تهدف إلى شلّ قدرة إسرائيل على الردع السيبراني وإضعاف معنويات قوّاتها. منذ بداية حرب الإبادة على غزة في تشرين الأول (أكتوبر) 2023، تعرّضت إسرائيل لهجمات متكررة استهدفت مواقع حكومية مثل وزارتي «الدفاع» والعدل، بالإضافة إلى تعطيل «مركز أبحاث النقب النووي». كما شملت الهجمات قرصنة مواقع خدمات الطوارئ، ما أدى إلى تعطيل تطبيقات الهواتف الذكية التي يعتمد عليها المستوطنون للتنبيهات العاجلة. تسبّب التعطيل في حالة من الفوضى داخل المدن الكبرى، حيث شعر الإسرائيليون بالعجز عن الوصول إلى المعلومات الحيوية خلال فترات قصف حركات المقاومة.
تسعى "إسرائيل" إلى الرد على هذه الهجمات بطرائق متعددة وفقًا للصحف العبرية، بدءًا من الهجمات المضادة وصولًا إلى الإجراءات القانونية ضد منصات التواصل التي تنشر التسريبات. مع ذلك، كانت جهود إسرائيل محدودة الفعالية، وخصوصًا في مواجهة مجموعات غير مركزية مثل «أنونيموس السودان»، التي استهدفت مواقع إسرائيلية رئيسية وعطّلت تطبيقات خدمات الطوارئ. بالتزامن مع ذلك، تعمل الولايات المتحدة مع إسرائيل لتعقّب الهاكرز المسؤولين عن هذه الهجمات. وصدرت اتهامات رسمية ضد عدد من الأفراد في إيران والسودان، لكن عمليات التعقّب ظلت صعبة بسبب الطبيعة اللامركزية لتلك المجموعات.
مع استمرار الحرب على غزة ولبنان، يبدو أنّ الحرب السيبرانية ستستمرّ كجبهة مفتوحة ومؤثرة في الصراع. يتوقع المحللون أن تؤدي هذه الهجمات دورًا أكبر في المراحل القادمة، إذ تسعى الأطراف المختلفة إلى تحسين تقنياتها واستغلال الثغرات الأمنية التكنولوجية. ويمثل هذا التصعيد الرقمي تحولًا جذريًا في طبيعة النزاعات، فأصبحت الحرب الآن متعددة الأبعاد، تشمل الجوانب العسكرية والاقتصادية والميديا والسيبرانية.