بإمكاننا كتابة مجلّدات عن انحياز الإعلام الغربي للرواية الإسرائيلية منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 حتى اليوم. بإمكاننا أيضًا استحضار مئات الأمثلة، والمقالات، والتقارير، والرسائل المباشرة، والمداخلات في الاستديوهات... لكن بعيدًا عن غزة، وبعيدًا عن لبنان، سنعود إلى ما حصل في أمستردام بين عدد من العرب، وجمهور مكابي تل أبيب الذي كان موجودًا هناك، لتشجيع فريقه: كيف صاغ الإعلام رواية واحدة؟ وكيف استخدم مفردات وتوصيفات تخدم الرواية الإسرائيلية؟ وكيف نزع، مرة أخرى، حدثًا إسرائيليًا ــ عربيًا من سياقه، بطريقة تتّسق مع سردية الاحتلال؟
نبدأ من قناة سكاي نيوز البريطانية. بعد ساعات من المواجهات بين عرب ومشجعين إسرائيليين، أعدت مراسلة القناة في العاصمة الهولندية أليس بورتر، تقريرًا إخباريًا عمّا حصل، بلغة هادئة وغير انفعالية. يبدأ التقرير (مدّته دقيقة و56 ثانية) بسرد الأحداث، من وصول الجمهور الإسرائيلي إلى أمستردام، ثم تمزيق الأعلام الفلسطينية، والهتاف بشعارات عنصرية معادية للعرب، وصولًا إلى المواجهات التي تلت ذلك في الشارع.
لكن بعد ساعات قليلة حُذف التقرير عن كل منصات التواصل الاجتماعي "بسبب عدم تماشيه مع معايير سكاي نيوز الخاصة بالتوازن والحياد"، كما أوضحت القناة على "إكس". نسخة محدّثة من الفيديو نُشرت (دقيقتان و53 ثانية)، لكن هذه المرة مع تركيز أساسي على وصف الهجوم بـ"المعادي للسامية"، وإضافة تصريح رئيس الوزراء الهولندي، وهو يدين "الأفعال المعادية للسامية"، وتصريح آخر لمشجّع إسرائيلي يروي كيف أن ما رآه، ذكّره بالسابع من أكتوبر. هذا هو "التوازن والحياد" الذي ارتأته القناة البريطانية، تماشيًا مع إطار وضعته إسرائيل للمواجهات، وكرّرته منذ ليلة الخميس - الجمعة الماضية.
في جولة سريعة على الصحف والقنوات الأميركية، والبريطانية تحديدًا، يتكرّر عنوان واحد لأعمال العنف التي حصلت: "تعرّض جمهور فريق كرة قدم إسرائيلي لاعتداء"، ورغم أن أغلب الوسائل الإعلامية، مثل "نيويورك تايمز"، وNBC، أشارت في نَصّها إلى هتافات الجماهير الإسرائيلية المعادية للعرب، إلا أنها اختارت في عنوانها جزءًا واحدًا من الحدث.
بعض المؤسسات ذهبت أبعد من ذلك، بينها صحيفة ذا تليغراف البريطانية، التي عنونت تغطيتها بما يأتي: "الملك الهولندي: خذلْنا اليهود خلال هجمات كرة القدم كما فعلنا في عهد النازيين".
تأطير أعمال العنف التي حصلت بوصفها هجمات معادية للسامية، وتقديمها للقراء والمشاهدين من دون أي سياق لتسلسل الأحداث، نمط متكرّر منذ بدء حرب الإبادة على غزة في 7 أكتوبر 2023. فطوال أشهر صُوّرت عملية طوفان الأقصى، على أنها بداية التاريخ. عملية جاءت من فراغ.
في مقال له في صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية الشهرية، كتب بونوا بريفيّ في أكتوبر الماضي أن عملية طوفان الأقصى "تقع هي أيضًا في سياق تاريخيّ معيّن، يتعلق بست عمليات عسكرية عقابية إسرائيلية ضد غزة خلال 18 عامًا، وحصار بري وبحري من أشد الحصارات في العالم، واحتلال غير قانوني للأراضي الفلسطينية أدانته الأمم المتحدة مرارًا منذ عام 1967. بدلًا من تقديم هذه السياقات، تفضّل وسائل الإعلام الاعتماد على تسلسل زمني فوري للأحداث، ما يسمح لها بتجاهل الانتهاكات اليومية التي يتعرّض لها الفلسطينيون مثل الحواجز المستمرة، والاحتلال العسكري، وجدار الفصل، وهدم المنازل، والاستيطان على أراضيهم".
بهذه البساطة تحوّلت العملية إلى حدث بلا سياق أو تاريخ أو مسببات سياسية واجتماعية واستعمارية، بل مجرد مجزرة ارتكبها "إرهابيون" مدفوعون بأسباب دينية أو عرقية ضد "يهود". هكذا يولد سياق آخر موازٍ، لا هو واقعي ولا حقيقي، سياق مرتبط بالهولوكوست، واضطهاد اليهود، ولا علاقة له بـ76 عامًا من الاحتلال والمجازر والفصل العنصري.
هذا التلاعب بالتاريخ، وبكتابة الأحداث وحفظها، تتورّط فيه وسائل الإعلام شريكًا أساسيًا بإعادة صياغة الروايات بالطريقة التي تريدها أو تناسبها وتناسب أنظمة وجماعات ضغط ومؤسسات مالية واقتصادية ضخمة، والقيم التي تروّج لها هذه الفئات.
يعيد الإعلام تشكيل الحدث، ويصدّره بالشكل الذي يريده: من يتذكر في الغرب إحجام الولايات المتحدة عن الانخراط في المعركة ضد النازية؟ من يذكر مسؤولية ونستون تشرشل عن مجاعة عام 1943 في البنغال (ثلاثة ملايين وفاة)؟ من يذكر قتل مئات الآلاف من الشيوعيين في إندونيسيا بموافقة باريس وواشنطن؟ من يذكر الدعم القوي من الدوائر الليبرالية لديكتاتورية أوغستو بينوشيه في تشيلي؟ أسئلة يطرحها بريفيّ في المقال نفسه في "لوموند ديبلوماتيك"، ليدلّل على دور الإعلام في تغطية الأحداث وفق ما يناسبها، لا وفق حقيقتها، والترويج لها في كونها وقائع تاريخية ثابتة.
هذا التلاعب بصياغة الأحداث يصبح أكثر سهولة، في حالة إسرائيل، لأسباب مختلفة مثل التمويل، والإسلاموفوبيا، وانحيازات الصحافيين العاملين في غرف الأخبار، والضغط المتواصل الذي تمارسه جماعات صهيونية في الغرب، مثل "أونست ريبورتينغ" و"كاميرا".