لم يكفِ دعم صربيا لــــ"إسرائيل" بالسلاح والذخائر في حرب إبادة الفلسطينيين، بل توسّع ليشمل التعاون في تقنيات التجسس. تعاون يحمل تداعيات خطيرة على الصحافيين والناشطين الذين يعملون على فضح الانتهاكات الإسرائيلية أو ينتقدون سياسات صربيا القمعية
في السنوات الأخيرة، برز اسم صربيا إلى جانب "إسرائيل"، بشكل متزايد، في حقل التكنولوجيا المتقدّمة للتجسّس على مواطنيها، خصوصًا الصحافيين والناشطين الحقوقيين. وفقًا لتقرير حديث صادر عن «منظمة العفو الدولية»، تعتمد السلطات الصربية على منتجات تقنية إسرائيلية، أبرزها أدوات استخراج البيانات التي تنتجها شركة Cellebrite، إلى جانب نظام تجسس أُطلق عليه اسم NoviSpy. هذه الأدوات تُستخدم لاختراق الهواتف المحمولة واستغلالها في عمليات مراقبة واسعة النطاق.
شركة «سيلبرايت»، التي أسست في الكيان العبري وتعمل حول العالم، تُعرف بتطويرها لأدوات متقدّمة تُستخدم في استخراج البيانات من الأجهزة المحمولة. تعمل هذه الأدوات على تجاوز كلمات المرور والوصول إلى البيانات المخزنة على الأجهزة حتى في حالة إغلاقها. وقد استخدمت هذه التقنيات الشرطة الصربية لاختراق هواتف الصحافيين والنشطاء، في انتهاك واضح لحقوق الإنسان وخصوصية الأفراد. بالإضافة إلى أدوات «سيلبرايت»، كشف التقرير عن استخدام برنامج تجسس يُعرف باسم «نوفي سباي». ورغم أنّ الأخير أقل تطورًا مقارنةً بـ «بيغاسوس» الشهير، إلا أنه يُمكّن السلطات الصربية من الوصول إلى بيانات حساسة من الهواتف المحمولة، وتشغيل الكاميرات والميكروفونات من بُعد.
أظهر التقرير كيف استهدفت السلطات الصربية شخصيات بارزة، من بينها الصحافي الاستقصائي سلافيسا ميلانوف والناشط البيئي نيكولا ريستيتش. في إحدى الحالات، أُلقي القبض على سلافيسا بذريعة اختبار الكحول في أثناء القيادة، وصودر هاتفه. وبعد الإفراج عنه، لاحظ تغييرات مشبوهة على جهازه. بعد تحليل أجراه مختبر «منظمة العفو الدولية»، تبيّن أن هاتفه قد اختُرق باستخدام تقنية «سيلبرايت»، وثُبّت برنامج «نوفي سباي» عليه. وفقًا للخبراء، استخدمت هذه التكنولوجيا أيضًا لاستهداف ناشطين من منظمة «كروكوديل»، وهي مجموعة تُعنى بالمصالحة في منطقة البلقان.
أكد التقرير أنّ السلطات الصربية تلجأ إلى استغلال الاحتجاز أو التحقيق مع الأفراد لاختراق أجهزتهم وتثبيت برامج تجسّس عليها.
تاريخيًا، تربط صربيا و"إسرائيل" علاقات ديبلوماسية واقتصادية قوية، تتعمق خصوصًا في مجالات التكنولوجيا والأمن السيبراني. وتنحدر عائلة تيودور هرتزل، أبي الصهيونية، من زيمون التي أصبحت اليوم جزءًا من العاصمة الصربية بلغراد. وفي السنوات الأخيرة، وقّعت صربيا مع "إسرائيل" اتفاقيات تعاون لتطوير الذكاء الاصطناعي وتعزيز الشراكات في مجالات الأمن الرقمي.
كما أنّ صربيا كانت واحدة من الدول التي استخدمت برامج إسرائيلية للتجسس، بما في ذلك «بيغاسوس» و«سيركلز»، قادرة على تتبع مواقع الهواتف المحمولة في الوقت الفعلي. تعود العلاقة بين الاثنين إلى جذور تاريخية وثقافية عميقة. فـــ"إسرائيل" تعدّ صربيا شريكًا إستراتيجيًا في منطقة البلقان، بينما تستفيد صربيا من التكنولوجيا الإسرائيلية لتحديث بنيتها الأمنية. هذا التعاون لم يكن خاليًا من الجدل؛ فقد اتُهمت صربيا باستخدام الأسلحة والتكنولوجيا الإسرائيلية في قمع النشطاء وارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان. أدى استخدام هذه الأدوات إلى خلق الخوف وعدم الثقة بين الصحافيين والنشطاء في صربيا. ويشعر كثيرون بأنّ أي محادثة أو نشاط قد يكون مراقبًا، ما يدفع بعضهم إلى ممارسة الرقابة الذاتية أو حتى الامتناع عن العمل تمامًا. أحد النشطاء الذين تحدثوا لمنظمة العفو الدولية وصف الوضع بأنه «سجن رقمي».
إضافة إلى ذلك، أثارت هذه الممارسات مخاوف حقوقية دولية. فقد دعت منظمات مثل «العفو الدولية» وشركة «غوغل» إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد استخدام مثل هذه التقنيات في انتهاك حقوق الإنسان. وأرسلت «غوغل» تحذيرات إلى الأفراد المستهدفين في صربيا، مؤكدة أن أجهزتهم تعرضت لهجمات برعاية حكومية.
رغم الأدلة المقدمة، نفت شركة «سيلبرايت» أي تورّط في أنشطة غير قانونية. وقالت الشركة إنّ منتجاتها تُباع للاستخدام القانوني فقط، وتُشترط موافقة المستخدم أو وجود مذكرة قضائية لاستخدامها. ومع ذلك، يؤكد تقرير «العفو الدولية» أنّ الأدوات الإسرائيلية تُستخدم بشكل متكرّر في سياقات تفتقر إلى الشفافية أو الرقابة القانونية.
أما السلطات الصربية، فلم تُصدر أي تعليق رسمي على الاتهامات الواردة في التقرير، ما يزيد من الشكوك حول تورّطها في هذه الممارسات. وهو نمط معتاد من صربيا التي أكدت التقارير أنّها زادت بشكل كبير من صادراتها من الأسلحة والذخائر إلى الكيان العبري خلال العام 2024، رغم الانتقادات الدولية والنداءات لوقف شحنات الأسلحة بسبب الحرب على غزة.
وفقًا للتحقيقات التي أجرتها «شبكة تقارير البلقان» (BIRN) وصحيفة «هآرتس» العبرية، بلغت قيمة صادرات الأسلحة الصربية إلى «إسرائيل» نحو 23.1 مليون يورو هذا العام. وأُرسلت عبر رحلات جوية عسكرية من مطارات بلغراد ونيش إلى قاعدة «نيفاتيم» الجوية الإسرائيلية، تزامنًا مع العمليات العسكرية الإسرائيلية المكثفة في غزة التي أسفرت عن آلاف الشهداء والجرحى المدنيين.