أوراق ثقافية

مفقودو غزّة: معالم «المأساة» تتكشّف

post-img

عبدالله يونس (صحيفة الأخبار)

منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، شرعت فرق الدفاع المدني في انتشال عشرات الجثامين التي كانت مدفونة تحت الركام.

في منطقة الزنة شرق خانيونس جنوب قطاع غزة، وقف محمود جاد الله (53 عامًا) أمام بقايا منزله، بعدما سابق قدميه إلى هناك، للبحث عن ابنه المفقود، عمر (24 عامًا)، الذي لم يعرف عنه شيئًا منذ نزوحه إلى دير البلح وسط القطاع. ففي أيلول الماضي، تعرّض منزل جاد الله، المكوّن من أربعة طوابق، لغارة إسرائيلية استهدفت الطابقَين الأخيرَين، حيث يسكن أبناؤه الثلاثة، ما أدّى إلى استشهاد اثنين منهم استطاعت فرق الدفاع المدني انتشالهما من بين الأنقاض، فيما اختفى أثر ابنه عمر وبقي عالقًا أسفل الركام. وقبل أن يغادر بلدته، كتب الرجل على أحد جدران منزله المدمّر: «هنا يرقد عمر». ومن فوق الركام، يقول جاد الله، في حديث إلى «الأخبار»: «منذ وقوع الجريمة، لم أستطع النوم. كنت أتخيّل وجه عمر وأسمع صوته يناديني. لم أكن أعلم إن كان حيًا أو ميتًا، لكن قلبي كان يقول لي إنه قريب، تحت هذا الركام».

بعد ساعات من بدء البحث بمساعدة الجيران وبعض المتطوّعين، وباستخدام أدوات بسيطة كالمجارف والروافع، تمّ العثور على جثمان عمر. عن تلك اللحظة، يتابع الأب: «عندما وجدنا جثة عمر، شعرت بأنني فقدت روحي. كان جسده متجمّدًا تحت الركام، لكنني شعرت بأنه أخيرًا عاد إليّ. احتضنته وكأنني أحاول أن أوقظه من نومه. لم يعد لي شيء الآن سوى ذكريات أبنائي الثلاثة. دفنتهم جميعًا بيدي، ولم يبقَ لي سوى الصبر والدعاء أن يجمعني الله بهم في الجنة».

تجدر الإشارة إلى أن آلاف الفلسطينيين فُقدوا خلال الحرب، نتيجة القصف العنيف والانهيارات التي طاولت المباني السكنية، فيما أفادت مصادر متعددة بأن عدد المفقودين تجاوز الـ11 ألف شخص، مع وجود تقديرات تشير إلى أكثر من 21 ألفًا.

فقدان في أثناء الهروب

مع اشتداد القصف على مدينة بيت حانون شمال قطاع غزة، في تشرين الثاني الماضي، لم تجد عائلة شراب خيارًا سوى الفرار بحثًا عن ملاذ آمن. كانت اللحظات متسارعة ومليئة بالخوف، والأم تُمسك بأصغر أبنائها، بينما يحاول الأب تهدئة البقية. وعبد السلام، الابن البكر والبالغ 19 عامًا، كان آخر من خرج من المنزل، وهو يحاول مساعدة الجيران. لكن عندما التفتت العائلة لتفقُّد أفرادها في الطريق، لم يكن عبد السلام بينهم، علمًا أنها استقرّت أخيرًا في أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة. ويقول الأب، خليل شراب، لـ»الأخبار»: «بحثنا عنه في كل مكان. كنّا نظنّ أنه أصيب أو اعتُقل، لكن لا أحد كان يملك إجابة. أبلغنا الصليب الأحمر والدفاع المدني، فأخبرونا بأن الوصول إلى بيت حانون كان مستحيلًا بسبب كثافة القصف». مرّت الأيام، وعبد السلام ظلّ مفقودًا، فيما عائلته تعيش حالة من الترقّب واليأس، بين أمل صغير بأنه ما زال على قيد الحياة، وخوف كبير من أن يكون قد رحل من دون وداع.

مع إعلان وقف إطلاق النار، قرّرت العائلة العودة إلى بيت حانون لتفقد منزلها والبحث عن أيّ دليل يقودها إلى عبد السلام. لكنّ المشهد مروّع هناك؛ فالدمار يغطّي كل شيء. وبعد ساعات من البحث، عثر الأب على ما تبقّى من جثمان عبد السلام ملقًى على الأرض، وقد تحلّل بفعل الأيام الطويلة تحت أشعة الشمس والبرد. «لم أتعرّف إليه في البداية، لكنّ ثيابه كانت هي الدليل. لم أصدّق عينيّ عندما رأيت ابني بهذا الشكل. انهرت مكان وقوفي، واحتضنته وكأنه سيعود إلى الحياة»، يقول الأب المكلوم. ويضيف: «عبد السلام كان دائمًا سندنا، وكان يحلم بأن يكمل دراسته ويصبح مهندسًا. الآن، كل ما تبقّى منّا هو الدعاء له ولجميع من فقدناهم في هذه الحرب القاسية».

جثامين صامتة

منذ دخول وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ، شرعت فرق الدفاع المدني في انتشال عشرات الجثامين التي كانت مدفونة تحت الركام. جثامين صامتة تخبّئ حكاياتها بين ثنايا الدمار، لم تُعرف هويات أصحابها، وظلوا أسرى الغياب، حتى باتت لهم قبور تحمل وصف «شهداء مجهولي الهوية». وأعلن الدفاع المدني في غزة عن حاجته الماسة إلى معدات ثقيلة ومتخصّصة لانتشال الجثامين من تحت الأنقاض، مشيرًا إلى أن العمليات الحالية قد تستغرق ما بين عامين وثلاثة أعوام بالوتيرة الحالية.

هذه المأساة التي بدأت تتكشّف مع انتهاء الحرب، تعكس حجم الإبادة التي تعرّض لها سكان قطاع غزة على مدى 15 شهرًا، في حين تبرز الحاجة الملحّة إلى دعم الجهود الإنسانية والإغاثية للتخفيف من معاناتهم.

يقول المدير العام للمكتب الإعلامي الحكومي، إسماعيل الثوابتة، لـ»الأخبار»، إن قضية المفقودين «تمثّل مأساة أخرى تضاف إلى المآسي التي خلّفتها الحرب الأخيرة»، مؤكدًا أن «نهاية الحرب لا تعني نهاية البكاء والألم بالنسبة إلى العائلات التي وجدت أبناءها وأحباءها جثثًا هامدة تحت الركام وفي الطرق». ويضيف الثوابتة: «ما زالت هناك مئات العائلات التي تعيش بين نار القلق وأمل العثور على مفقوديها، وسط ظروف إنسانية صعبة. نحن أمام مشاهد مروّعة تتكرّر يوميًا، حيث تُنتشل جثث الضحايا المتحلّلة من تحت الأنقاض، ما يعكس عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها شعبنا»، داعيًا المجتمع الدولي إلى تحمُّل مسؤولياته الإنسانية والقانونية تجاه الشعب الفلسطيني في غزة، ومطالبًا بسرعة إمداد جهاز الدفاع المدني بالآلات والمعدات المناسبة التي تمكّنه من انتشال المفقودين وإنهاء معاناة العائلات التي تنتظر أيّ خبر عن أحبائها. ويتابع: «هذه الجريمة المستمرّة بحقّ الإنسانية، تستدعي وقوف العالم بجانب غزة، ليس فقط لوقف المعاناة، ولكن أيضًا لضمان ألّا تتكرّر مثل هذه الجرائم في المستقبل».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد