أوراق إعلامية

لعبة الميديا القذرة: الجنوب خارج التغطية

post-img

نزار نصر (جريدة الأخبار)

قد يكون مفيدًا سؤال غالبية الإعلام اللبناني عن سبب غياب البثّ المباشر من الجنوب في الأيّام القليلة الماضية. الموضوع ليس اعتباطيًّا ولا من باب المزايدة، إنّما من باب الأخلاقيّات المهنية والإنسانية أوّلًا، وثانيًا الوطنية والسيادية التي يكثر التشدّق بهما أخيرًا بالتزامن مع مفعول عكسي يهوي بهما نحو القعر.

بدايةً، فلنعد بالزمن إلى 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2023، عندما ارتكب الاحتلال ما اعتُبر باكورة جرائمه بحقّ أطفال لبنان في العدوان الأخير، إذ سبق له أن استهدف مدنيّين وصحافيّين. هكذا، ومن دون أيّ سبب غير إجرامه غير المبرَّر المعتاد، قصف سيّارة على طريق عيناثا، فأودى بحياة الطفلات الثلاث ريماس وتالين وليان شور، اللواتي لم يتجاوز سنّ أكبرهنّ 14 عامًا. يومها، لم يلتفت الإعلام اللبناني، باستثناء جزء يسير منه مؤيّد للمقاومة، كأنّ الحدث لم يقع في بلده. دُفن الموضوع في النشرات الإخبارية، وبالكاد تصدّر العناوين، رغم انبعاث المراسلين في مناطق الجنوب منذ قرابة شهر في حينه، بينما أطلّت «الجزيرة» نازعةً صفة «الشهادة» عن الشهيدات. وما أشبه الأمس باليوم. رغم أنّ ردّ الفعل الشعبي في حينه كان أكثر زخمًا بسبب الصدمة ممّا كان كثرٌ قد نسوه عن الكيان أو لم يعايشوه بعد، إلّا أنّ المشهد الإعلامي بقي هو هو.

بالطبع، لا يجب لردّ الفعل الشعبي أن يخفت، فلا شيء يختلف بين استشهاد مدنيّين أصحاب الأرض في حينه واستشهادهم في الأيّام الماضية، وكلاهما يعنيان خسارة لبنانيّين حياتهم. لكن بعد كلّ ما مرّ به هذا الشعب، يمكن التفهّم، وخصوصًا أنّه ترافق مع بهجة استعادة الأهالي البطولية لقراهم من براثن الاحتلال. إلّا أنّ الأمر لا ينطبق على الإعلام المهيمن، فردّ فعله لم يكن على قدر التوقّعات منذ اليوم الأوّل. لذا كان التذكير بالشقيقات الثلاث، إذ في حينه لم يكن ممكنًا استغلال حجج اليوم لتبرير اللامبالاة. لم يكن ممكنًا تبريرها بحجّة أنّ المقاومة «جلبت لنا الحرب» التي لم تكن قد وقعت بالمعنى الواسع بعد، ولا بحجّة «مهزومين»، ولا بحجّة طرد مراسلي قنوات لعبت دورًا وسخًا أثناء الحرب وتتفاجأ الآن من الاحتقان ضدّها... كان الأمر واضحًا من دون قفّازات: لا نكترث وافعلوا ما شئتم، ولديكم «إعلامكم» فاذهبوا إليه! للأسف، تدّعي هذه القنوات مناصرتها الوحدة والوطنية و«الرزّ بحليب»، فيما في الحقيقة يفكّر القائمون عليها بمنطق «نحن وأنتم»، ولا يحتاج الموظّف فيها أكثر من يومه الأوّل لملاحظة ذلك.

هكذا، نصبح أمام التنافر المعرفي الذي يؤرّقنا اليوم. يستمهلك مقطع مصوّر لسيّارة تتعرّض لنيران المحتلّ، فيصرخ أولاد فيها لوالدهم الجالس خلف المقود، من دون أن يأتيهم الردّ. فقد استُشهد أمام أعينهم. هذا ما يتعرّض له لبنانيّون اليوم، فيما تنشغل الشاشات بأخبار «استفزازات» و«إشكالات» وتضخّم من أمرها، فتكمل دقّ إسفينها في نعش وطن سبق أن انشطر من ضربتها الأولى. لا بأس، فالهدف «تقسيم» السفينة في محيط مائج تحاوطه الأعاصير، طمعًا بكدسة من الأوراق الخضراء.

المشكلة لم تعد فقط في نوعية التغطية، ليقفز أحدهم ويوعز بالمقاطعة كأنّ ذلك ينهيها. إنّها سرطان يتمدّد إلى العقول ويغسل الأدمغة جماعيًّا. واهم مَن يعتقد أنّ المتغيّرات السياسية التي تهبّ نحو الليبرالية الفردانية والوصفات النيوليبرالية ومعاداة منطق المقاومة ومساكنة المحتلّ، إنّما هي بسبب «تآمر الآخرين» فقط. بالطبع المؤامرة تقف خلف الدفّة، لكنّ الأساس لعبة الميديا القذرة. معظم مَن يُنظر إليهم على أنّهم «متآمرون»، لا يعدون كونهم سمحوا للإعلام باستغلالهم، واستحالوا مغفّلين مفيدين، فيما ضمائرهم مرتاحة كونهم خُدعوا لاقتناعهم بأنّ ما يقولونه ويقومون به إنّما يصبّ في «المصلحة الوطنية العليا». المقاطعة وحدها لا تفيد من دون مواجهة بالأدوات المماثلة، بصرف النظر عن الرأي القائل إنّ حركات المقاومة لا تحتاج إلى هذه الأدوات، والذي يتبع للمنطق القديم ذاته الذي يستخفّ بقدرة التطوّر التكنولوجي والرقمي في عصرنا هذا.

تمكّنت لعبة الميديا القذرة من الانتصار بجهود مختلف أركانها التي تدّعي الاختلاف، فيما مجاريرها تصبّ في النهر ذاته وتلاوينها تمتزج لتصبح لونًا واحدًا في النهاية. وأضحت المقاومة وبيئتها في نظر هؤلاء مثل «زيّون اللي ستّها من كحلون» (شخصية فيروز في مسرحية «ميس الريم») التي اتّفق المتقارعون على اتّهامها بمكائدهم. لذا، علينا لفت انتباههم: إذا كنتم متّفقين ضدّها فأنتم لستم مختلفين، وإذا لستم متّفقين إذًا أنتم مختلفون وهي ليست سبب «المشكل»! في الأخير، تتعدّد الأسباب والنتيجة واحدة: «هالسيّارة مش عم تمشي»...

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد