زينب الموسوي / جريدة الأخبار
في تاريخ الشعوب التي تناضل من أجل حريتها، تظهر شخصيات تتجاوز أدوارها القيادية لتصبح رموزًا تجسّد صمود الأمة وكفاحها. طوّع يحيى السنوار وسائل المقاومة كافة للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، فبرز، عبر مجموعة من العناصر التي شكّلت تاريخه ومسار نضاله، رمزًا للكفاح ضد الاستعمار بأوجهه كلها.
هذا؛ وبينما يسطع اسم يحيى السنوار في العالم كله، بوصفه مهندس «طوفان الأقصى»، نشرت قناة «الجزيرة» وثائقي «ما خفي أعظم»، الذي ظهر فيه السنوار بطلًا قوميًا سيخلّده التاريخ مهما جار. عرض الوثائقي مشاهد خوض السنوار للمعارك من فوق الأرض، رغم كل السرديات التي كانت تدّعي اختباءه في الأنفاق. وكان لافتًا خلال نزاله اتكاءه على عصاه، بما لها من رمزية متعددة الأبعاد، تجمع بين الماضي والحاضر، وبين السيميائية الدينية والمقاومة الحديثة. لقد بدت «عصا السنوار» عنصرًا مهمًا في فهم شخصيته، ونضاله، ورؤيته للصراع الذي لا يتوقف.
رمزت العصا، على امتداد تاريخ طويل، إلى القوة والسلطة في مختلف الثقافات. أما دينيًا، فبمجرّد ذكر كلمة «عصا»، تتبادر إلى الذاكرة الجماعية «عصا موسى». تخطت «عصا موسى» وظيفتها في التدعيم البدني «وهشّ الغنم» و«مآرب أخرى»، لتصبح في ذروة الصراع مع فرعون وسيلة لتحدّي الطغاة والتحرر والانتقال من الضعف إلى القوة، ومن القهر إلى الحرية. أما «عصا السنوار»، فلم تكن للتدعيم الجسدي في أقسى لحظات الإرهاق خلال المعارك فقط، بل كانت أداة للبقاء ورمزًا للتحدي. كانت عصاه امتدادًا لجسده وروحه، ومثّلت ثباته في الأرض وقوته في التفاوض وقدرته على الصمود. وفي الفصل الأخير من قصّته، لم يعبّر رمي طائرة الاستطلاع الإسرائيلية بعصاه عن مقاومة الاحتلال بالوسائل المتاحة فقط، بل حمل دلالة عميقة على قدرة المقاومة الفلسطينية على مواجهة التكنولوجيا المتقدمة والهيمنة العسكرية من جهة، وعلى تحطيم قلاع الإعلام الغربي – الإسرائيلي وسردياته، وإبطال «سحرها» من جهة أخرى.
لقد خاض «هرقل الفلسطيني» بعصاه معركته ضدّ وحوش الاستعمار وآلهة البترودولار، فأصبح أسطورة للصمود والتحدي. وكما لم تثنِ «هرقل الإغريقي» التحديات والعراقيل، لم تثنِ السنوار الضغوط السياسية العربية والدولية الداعية إلى التسوية أو التنازلات، ولا نيران الحروب، ولا حتى ظلامات السجون عن النضال في «قصته الفلسطينية المريرة، التي لا مكان فيها لأكثر من عشق واحد، وحبّ واحد». هو نفسه صاحب التاريخ النضالي الممتد، ذاك الذي تحدّى السجّان، وحوّل سجنه من مكان للعقاب، إلى مختبر لصياغة الهوية الفلسطينية النضالية وصنع القادة، وإلى نقطة الانطلاق لتحركات جوهرية في وعيه بالاحتلال وكيفية مواجهته. وهكذا، من خلف قضبان «الشوك»، نبت «القرنفل».
لقد قدّم السنوار إلى شعوب العالم المستعمَرة، عبر بقائه في الميدان سائرًا كتفًا إلى كتف المقاومين، صورة عن كيفية اجتراح الشعوب لمصيرها بأيديها. فعداك عن رفضه التام للمساومة أو الخنوع رغم شراسة المعركة وإجرام العدو، وعن نضاله الذي استمرّ حتى الرمق الأخير ضدّ أعتى القوى الاستعمارية الحديثة، صدّر السنوار للساحات المحلية والإقليمية والعالمية فكرة أن المقاومة ليست مجرد فعل مسلح، بل صمود فكري وروحي أيضًا. وحمل قضية شعبه حتى النهاية واجترح لنفسه نهايةً تليق ببطل عالميّ، واستحقّ لقب «والد جميع الفقراء والبؤساء والمنكوبين»، الذي أُطلق على توباك أمارو، زعيم المقاومة في البيرو ضد الاستعمار الإسباني. ذاك الذي سُلّم مكبّلًا بالسلاسل إلى الملكيين، وعندما زاره المفتش أريتشي في سجنه وطلب منه مقابل وعود كثيرة أسماء المتواطئين معه في التمرد، أجابه أمارو باحتقار: «لا يوجد هنا متواطئون سوانا أنا وأنت، أنت لكونك مضطهِدًا، وأنا لكوني محرِّرًا، وكلانا يستحق الموت». وهكذا، في لحظة إعدامهما، أعلن أمارو كما السنوار، موت قاتلهما.
ظهر الميدان بوصفه ساحة لتخليد الأبطال وتعرية المحتلين، هناك حيث جسّد السنوار الصراع الدائر بين «الشوك والقرنفل»، وحيث ظهّر مشهد الصراع الفلسطيني جليًا، بأنه ليس مجرّد معركة للنجاة، بل تمسّك حيّ بالأمل. وهناك أيضًا، حيث خطّ الفصل الأخير من الرواية بدمه، معلنًا انتصار القرنفل. ففي معركة دائمة بين الضعف الظاهر والقوة المستترة، وبين الأمل والألم، وفي واقع فلسطيني مرير إثر الاحتلال وإجرامه، أينع «القرنفل» حيثُ زُرع في حقل صمود خصب، فـ«إذا كان الاحتلال شوكًا يطعننا يومًا بعد يوم، فإننا نزرع القرنفل في قلب أرضنا ليثبت أننا هنا، ونحن هنا باقون».
استشهد السنوار، ومات البطل. هكذا تقول الصحف ونشرات الأخبار. ولكن يبدو أن للتاريخ رأيًا آخر. فالسنوار الذي أرشف تاريخه النضالي الطويل، من الحفرة إلى السجن إلى الميدان، بروايته «الشوك والقرنفل»، وخلّد ذكرى بطولته الأخيرة في وثائقي «ما خفي أعظم»، وابتدع نهاية أسطورية قهر بها المحتل، وجسّد روح البطولة والفداء إذ رأى في الألم طريقًا إلى الحرية، تصدّر المشهد العالمي بوصفه شخصية محورية تمثل روح النضال والصمود في وجه الطغيان. لقد تشكلت صورته بوصفه قائدًا لم يتخلَّ عن مبادئه ولا عن شعبه، واجه الاحتلال بكل ما هو ممكن، حتى حطّم أسطورة تفوّق «المُستعبِد» بعصاه التي تحمل في جوهرها تاريخ نضال أهل الأرض كاملًا.