أوراق سياسية

ما بعد قنبلة ترامب: اتفاق غزّة رهن "الغموض" الأميركي

post-img

الأخبار

تثير رؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في شأن قطاع غزّة، وترحيل الفلسطينيين إلى خارجه، تساؤلات لا تنحصر فحسب في مدى جدّية الطرح، وإمكانية تطبيقه على أرض الواقع، بل تتعدّى ذلك إلى تأثيره المباشر على مسار اتفاق وقف إطلاق النار والمفاوضات الجارية للتوصّل إلى تفاهمات حول المرحلة الثانية منه. وعلى رغم الضجّة الكبيرة التي أثارتها الرؤية الأميركية، والتي يبدو أنها تحمل في طيّاتها هدفًا شخصيًّا، كما هي الحال مع العديد من أفكار ترامب، فإن السؤال المركزي الذي يجب التركيز عليه الآن، هو: هل ستؤدّي هذه الرؤية إلى نسف المفاوضات واستئناف الحرب؟ أم أن المسارين يسيران بشكل مستقلّ من دون أن يؤثّر أحدهما على الآخر؟ أم أن هناك تكاملًا، كما يرى بعض المراقبين، بين تلك الرؤية والجهود الدبلوماسية الهادفة إلى حلّ الأزمة؟.

وفي ظلّ غياب إجابات حاسمة، تبرز فرضيّتان متباينتان: الأولى، وهي الأكثر تطرّفًا، تشير إلى أن رؤية ترامب قد تؤثّر سلبًا على مفاوضات المرحلة الثانية، وربّما تعوّق استكمال تنفيذ ما تبقّى من المرحلة الأولى؛ أمّا الثانية، وهي الأكثر تفاؤلًا، فترى أن إنجاح خطّة وقف إطلاق النار، يشكّل جزءًا لا يتجزّأ من الرؤية "الترامبية" نفسها، ويُعدّ مقدّمة منطقية لتحقيقها؛ وإنْ كانت الفرضية الأولى أيضًا، وهنا المفارقة، تَعتبر أن من شأن استئناف الحرب وتكثيف العنف ضدّ الفلسطينيين، أن يساهم في الدفع إلى تهجيرهم من القطاع. وفي هذا الإطار، نقل موقع "واللا" العبري، أمس، عن مسؤولين أميركيين، أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أكد خلال محادثاته في واشنطن، رغبته في تمديد المرحلة الأولى من الاتفاق، لافتًا إلى "إمكانية" تأمين إطلاق سراح 2 أو 3 أسرى إسرائيليين إضافيين، وذلك "بناء على حالتهم الصحية وليس أكثر".

وأشار المسؤولان إلى "نية" نتنياهو الدخول في مفاوضات المراحلة الثانية، لكنّه في المقابل يطالب بـ"تخلي حركة حماس عن السلطة في غزّة ومغادرة كبار قادتها إلى الخارج". وفي حال عدم موافقتها على ما تقدم، فإن "إسرائيل لن تنسحب من محو فيلادلفيا". وفي السياق نفسه، نقلت صحيفة "معاريف" أن "المجلس الأمني والسياسي سيجتمع الثلاثاء المقبل لبحث المرحلة الثانية" من الصفقة. وبحسب ما هو مقرّر، سيغادر وفد "إسرائيلي" إلى الدوحة لاستكمال المفاوضات السبت المقبل، في ما من المتوقع أن تتسلم "إسرائيل" غدًا الجمعة قائمة بأسماء الأسرى "الإسرائيليين" الذين سيتم الإفراج عنهم، حسبما نقلت "هيئة البث".

وعلى أي حال، يبدو أن الانتظار سيكون سيد الموقف في المدى المنظور. فعلى الرغم من أن خطّة ترامب لا تبدو كأنها تقلب الطاولة أو تغيّر الاتّجاه بشكل جذري في ما يتعلّق بمفاوضات وقف إطلاق النار، لكنّها قد تمنح المتطرّفين ذريعةً للتمسّك بتوجّهاتهم العدوانية، ظنًّا منهم أن مسار استئناف الحرب قد حصل على نوع من الضوء الأخضر في واشنطن. وهو واقع يفرض على الإدارة الأميركية مسؤولية أكبر في فرض إيقاعها الخاص على جميع الأطراف، ولا سيما الطرف الإسرائيلي، من خلال توضيح توجّهاتها وقراراتها بشكل لا يترك مجالًا للتأويل أو الاستغلال السياسي.

رؤية ترامب أثارت مشكلة كبيرة تتعلّق بالتوقيت وأسلوب التقديم الصادم


على أن رؤية ترامب أثارت مشكلة كبيرة تتعلّق بالتوقيت وأسلوب التقديم الذي حرص الرجل، كعادته، على أن يكون صادمًا. ويبدو أن هناك "جرعة زائدة" من الحماسة في طرحه، الذي كان من الأجدى تقديمه بشكل تدريجي ومنهجي، وهو ما دفع كبار المسؤولين في الإدارة إلى الانخراط في عملية تبرير وتفسير للتصريحات، في محاولة لامتصاص الصدمة وتداعياتها السلبية على مسارات كانت قد أُقرّت وبدأت تأخذ شكلًا عمليًّا على الأرض، ومن بينها مفاوضات المرحلة الثانية.

وفي إطار ذلك التبرير، أكدت الناطقة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، أنه لا توجد خطّة مكتوبة لإجلاء الفلسطينيين بشكل دائم، وأن أيّ عملية نقل ستكون مؤقتة فقط، في تناقض تام مع ما قاله ترامب نفسه. من جهتهم، حاول بعض مسؤولي الإدارة تقديم الاقتراح على أنه جزء من "مساعي واشنطن الدبلوماسية لتحقيق الاستقرار في المنطقة"، إذ شدّد هؤلاء على أنه لا توجد خطط لإشراك القوات الأميركية أو استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين في تنفيذ الخطّة. كما فسّروا تصريحات الرئيس في شأن "ملكيّة" الولايات المتحدة لقطاع غزّة، بأنها تعكس رغبته في قيادة عملية إعادة الإعمار، والتي قد تؤدي إلى سلام دائم.

وفي سياق التوضيحات نفسها أيضًا، قال وزير الخارجية، ماركو روبيو، خلال مؤتمر صحافي، إن الرئيس الأميركي "اقترح، بحسن نيّة، إزالة الأنقاض من غزّة وتنظيف المنطقة، فالناس بحاجة إلى مكان للعيش فيه خلال فترة إعادة الإعمار، مؤقتًا، كما يحدث في حالات الكوارث الطبيعية". وأشار روبيو إلى أن رئيسه كان يتحدّث فقط عن فكرة إخلاء القطاع مؤقتًا وإعادة بنائه، وليس عن فرض سيادة أو ملكية أميركية دائمة على غزّة. إلّا أن مبعوث ترامب إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، أكد جدّية الرؤية ووجودها المسبق، وإنْ عمد أيضًا إلى التنصّل من جزء منها، قائلًا، خلال اجتماع خاص مع أعضاء جمهوريين في مجلس الشيوخ، إن الرئيس "لا ينوي نشر أيّ قوات أميركية في غزّة، ولا يرغب في انفاق أيّ أموال أميركية لهذا الغرض". وعندما سئل عما إذا كانت التصريحات قد جاءت نتيجة "الحماسة اللحظية" لترامب، أجاب بأن الإدارة "تعمل على تطوير هذه الخطّة منذ مدّة".

ولا يُعدّ اختيار ترامب طرح رؤيته بشكل صادم ومفاجئ، من "خارج الصندوق" تمامًا، بهدف "فرض أجندة أميركية" من خلال الصدمة التي تتسبّب بها، بل هي خطّة وُضعت لتُنفَّذ، وإن كان الغرض من إحداث صدمة اختبار ردود الفعل وتحديد كيفية التعامل مع التحدّيات التي قد تواجه عملية التنفيذ. كما أن الخطّة لا تزال في مراحلها الأولى، ومن المبكر اعتبارها فاشلة أو خيالية أو عرضة للانحسار، لأن هذا الطرف أو ذاك رفضها، وهي كما يبدو، حيّة وتنتظر معالجة العقبات التي قد تعترض طريقها. وما لم يتحقق له ذلك، فسيعمد ترامب، كعادته، إلى استغلال الرؤية نفسها في اتّجاهات أخرى، من مثل الضغط على الفلسطينيين لتحقيق مكاسب أكبر في سياق المفاوضات على المراحل المقبلة من اتفاق وقف إطلاق النار، والترتيب الأمني والسياسي الذي ينتظر أن يعقب وقف الحرب.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد