خاص موقع "أوراق"/ محمد الحسيني
أن تحزن على فراق عزيز رحل على غفلة بلا استئذان مدعاة للأسى، إلا أن المشاعر القاسية لن تلبث لتخبو مع تلاشي اللحظات في بؤرة الزمن، وتتضاءل مع تزاحم المحطات الصاخبة، وتعاود استذكار الحزن في صورة معلّقة أو حادث طرأ أو قول طرق أو مشهد مرّ في تتابع البصر، ولكن أن يفارقك طود من الوجود حفر ذاته في الوجدان؛ فممّا لا شك فيه أنه سيلازمك في مدار النبض وتسارع الخفق ولهاث اللحظات المتعبة.
هكذا هم الرجال يعاندون حقيقة الحدث وما حدث وكيف حدث.. حتى ليأبى العقل مقولة التصديق العصيّة على الركون، فالعظماء لا يموتون وكأنهم تعاهدوا مع القدر في صفقة خلود؛ فلا يرحلون ولا يغيبون؛ بل يبقون في ترداد الصدى، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. ومهما رثيت أو كتبت أو رنّمت كلمات الحداء على صفحات القهر ستجد نفسك في أول طريق الوصف مع أبجدية قاصرة على مجاراة الوصف.
كنا دومًا على انتظار الظهور حتى من وراء شاشة فكيف بالحضور؟! نستمع لنفكّك أحاجي الكلمات بين ابتسامة وعبوس وبين ضحكة ودمعة وبين إشارة من إصبع يلازمها صدح الموقف الصارم تهديدًا ووعيدًا وأملًا وتطمينًا وثقةً بالنصر الذي لطالما التزمته المقاومة ديدنًا في وصال القضية، والآن يتكرّر الانتظار نفسه لظهور من نوع آخر يختم فيه السيّد إطلالات العنفوان.
أيام قليلة تبعد عن 23 شباط تجري مثقلة بمراسي الألم والنبض يسابق سير الزمن والأذهان تشخص قبل العيون، ترقب موعد اللقاء ليس للوداع الأخير؛ بل أولًا للتصديق بأنّ سيّد المقاومة قد رحل فعلًا، ولن يعاود امتطاء صهوة المنبر من جديد، وثانيًا لإلقاء وردة على النعش في حلقة وصل وإثبات بأننا معك كيفما كنت، واقفًا أم جالسًا أم نائمًا أم مسجّىً على محمل يتكئ على أجنحة الملائكة وعواتق الشهداء.
مهما قيل في السّيد حسن نصر الله من محبٍ أو كاره، من صديق أو عدو، من حليف أو خصم، يبقى الرجل كبير الأوتاد يسند صخرة الوطن، وسم الزمن في اثنين وثلاثين عامًا من القيادة جمع فيها أضداد الخلاف، وأعاد نسج خيوط سجادة الصمود وقاد قوافل المقاومين إلى النصر، سواء أكان هذا النصر نصرًا أم شهادة، فلا مكان للهزيمة في قاموس السّيد حيًا كان أو شهيدًا، وعلى الرغم من أنف أطنان القنابل.
أيام قليلة تبعد عن 23 شباط؛ حين يلقي السيد نظرته الأخيرة على سيل الجموع الزاحفة إلى المدينة الرياضية لا لتشارك في استفتاء الانتماء، فالانتماء لا يحتاج إلى هوية أو تعداد حين تكون الدماء حبرًا والجلود أوراقًا تحتضن نظم فصول القيام والمقاومة، وترسم لوحات التحرير عامًا بعد عام.. ستأتي الجموع لتهتف بحياته لا بموته، وتعاهد بقيامته لا برحيله، وتعلي قبضات الثبات على خطه، وتصدح بحناجرها لازمة الثورة "لبيك يا نصر الله.. لبيك يا نصر الله".
لن يكون مجرد تشييع لشهيد فدى الأمّة بروحه وآل على نفسه أن يبقى في عرين المقاومة بين أخوته يكابد جبهات الوجع، ها هنا رفاق سبقوه إلى العروج، وها هنا قوافل كبيرة من الشباب غدرت بهم تفجيرات جبانة فأبكت عينيه وأثقلت قلبه حتى ضاقت به الأوردة.. وها هنا الأهل والأحبة أشرف الناس وأكرم الناس يتيهون في منافي الوطن نزوحًا بكل قسوة الهجران عن الأرض والأرض.. ما عاد للحياة معنى والشهادة أولى.
قريبًا ستزّف الجموع السّيد كما أنبأهم في آخر خطاب له يرنو للقاء الشهداء، سيأتون من كل نواحي الوطن سيّارة ومشّاية، شيبًا وأطفالًا وشبانًا، يتسابقون لحجز مكان لهم قريب من السّيد، فقد مرّ وقت طويل قبل أن يتسنّى لهم الاقتراب إلى قيد أمتار، وفي كل خطوة يخطونها في مسيرة الوداع يستحضرون جمال المشهد في ابتسامته التي كان يختفي خلفها ثقل الدهور، ويستذكرون إمارات النصر في وجهه الذي اختزن آمال التائقين إلى الحرية، وفي جبينه الذي عركه طول السجود داعيًا من أجل اللحاق بمسيرة الشهداء.
قريبًا سيجتمع الناس من وراء الحدود في حشد يُتوقع ألا يتكرّر إلا بعظيم على قدر السّيد، يتقاطرون من تسع وسبعين دولة- وقد يزداد العدد- بازدحام وفود شعبية ودينية وسياسية وحزبية وفعاليات من أصقاع الأرض ليودّعوا السّيد، وهو الذي سبق أن استقبل العالم كلّه في محطات حياته، فهو القائد الذي كرّس معادلة "الشعب والجيش والمقاومة" وهزم "إسرائيل" وحرّر الأرض وأعاد الأسرى وكسر الحصار الدولي على لبنان، وحمى الحدود وأعاد للناس الشعور بالطمأنينة بالأمن وأعاد مجد العروبة وكسر مقولة الانهزام وأكّد القدرة على النصر لو اجتمع الكون كلّه..
هو السيّد العصيّ على الغياب، والحشود الناظرة إلى 23 شباط ستبقى تلاقيه في كل يوم مع نصر جديد.