معن بشور/ الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي- جريدة الأخبار
كُتب الكثير، وسيُكتب الكثير، عن سيد شهداء الطريق الى القدس السيد حسن نصرالله الذي عرفته الأمة مجاهدًا وقائدًا ومفكّرًا وفقيهًا وصاحب حضور طاغٍ في ميادين الجهاد والعمل السياسي، لكن سأحاول في هذه الكلمة أن أتحدث عن جانبين من شخصية القائد الكبير وهما التواضع والوفاء...
لقد لفتني منذ عرفته، في بداية تسعينيات القرن الماضي، وبعد انتخابه أمينًا عامًا لحزب الله، على أثر استشهاد الأمين العام السابق الشهيد الكبير السيد عباس الموسوي، في مثل هذه الأيام من عام 1992، أن من أبرز فضائل الشهيد الأسمى هو التواضع بكل ما تحمل هذه الكلمة من معان ودلالات، وما تشكّله من فضيلة تجعله يستقطب احترام ومحبة وثقة كل من عرفه مباشرة أو عبر إطلالاته التي كان ينتظرها العالم كله.
التواضع هو فضيلة تحتشد في داخلها فضائل عدة، فهي تعبير عن ثقة بالنفس لا تجعل صاحبها مضطرًا إلى التعالي على غيره ليضمن احترامه وتسليمه له بالقيادة، ولأن التواضع مقرون عادة بالصدق والشفافية والبساطة وكلها مزايا ما توفّرت لقائد إلا وانتزع المحبة والإعجاب والتسليم بمكانته ودوره.
هذا التواضع الجميل الودود لدى أبي هادي يجعل كل زائر له يشعر بأن لا حواجز بينه وبين القائد الذي دخل تاريخ أمتنا بكل قوة، ويبتعد في العلاقة معه عن أي تكلّف أو تزلّف طالما اتّسمت العلاقة بذلك بين الناس والزعماء وأصحاب الفخامة والجلالة والسمو.؛ فتواضع السيد نصرالله هو الذي فتح له القلوب قبل العقول لتصبح له مكانة قلّما احتلّها قائد، مكانة شكّلت دفعًا كبيرًا للجهاد خلفه ومعه، بل للاستعداد بالتضحية بالأرواح على الطريق التي اختارها طيلة حياته، هذا الرجل الذي ربط حياته بالقضايا المحقّة والعادلة في حياة الأمة.
أما الميزة الثالثة التي كنت ألمسها في سماحة الشهيد الأبقى في العقول والقلوب، فهي وحدوية القائد المقاوم الذي حرص أن يجسّد إيمانه بوحدة الوطن ووحدة الأمة ووحدة الإنسانية بسلوك يومي، وكدليل له في كل علاقاته الوطنية والعربية والإسلامية والأممية.
كان السيد حسن يتحمّس بعاطفة المؤمنين، وبحماسة الشباب، لكل فكرة أو مبادرة أو مشروع ذي طبيعة وحدوية. وحين ارتأينا في المؤتمر القومي العربي السعي إلى تأسيس "المؤتمر القومي - الإسلامي" للخروج من ذلك الصراع المفتعل بين القوميين العرب والإسلاميين، كان السيد نصرالله من أكثر المتحمّسين لهذه الفكرة انطلاقًا من قناعته الثابتة بأن التلاقي بين تيارات الأمة هو الحصن لكل جهد يسعى إلى حماية الأمة وتحرير أرضها والدفاع عن حقوقها، وأن معظم ما أصاب الأمة من نكبات ونكسات إنما نجم من عقلية كانت سائدة وهي العقلية التي تعتمد فكرة تغليب تيار على تيار، وفئة على فئة، وجماعة على جماعة.
مثلما كان لتجاوبه مع فكرة "المؤتمر القومي – الإسلامي "دورٌ كبيرٌ في إنجاح اللقاء بين التيارين وفي السعي إلى بناء كتلة تاريخية تحمل مشروع النهوض في الأمة، كان تجاوبه أيضًا مع فكرة المشاركة في المؤتمر القومي العربي بعد سنوات من تأسيسه، ورشّح يومها الوزير السابق الحاج محمد فنيش لعضوية المؤتمر باسم حزب الله، ليصبح في ما بعد كل من النائب السابق السيد نواف الموسوي، والنائب الحالي الشيخ حسن عز الدين والنائب السابق عمار الموسوي، أعضاء في الأمانة العامة للمؤتمر حتى اليوم.
ذكر أنه حين طرح الدكتور خير الدين حسيب والدكتور أحمد صدقي الدجاني فكرة مشاركة قياديين من حزب الله في المؤتمر القومي العربي الحامل للمشروع النهضوي في الأمّة... أجابنا ضاحكًا: "نحن أيضًا نحمل المشروع ذاته هو مشروع نهوض الأمة الذي يرى في المقاومة حجر الزاوية فيه"... وهكذا كان وبات المؤتمر مفتوحًا كإطار للتحاور والتشاور بين كل مكوّنات الأمة المؤمنة بالمشروع النهضوي العربي والداعمة للمقاومة...
هذا العقل الوحدوي الجامع هو الذي يفسر كيف تعاطى "حزب الله" بقيادة السيد حسن مع الكثير من العواصف والزلازل التي كانت تهز مجتمعاتنا وبلادنا، بدءًا من لبنان ومحاولات استكمال اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري الجسدي، بالاغتيال السياسي للمقاومة اللبنانية، وقيادتها المتمثلة في حزب الله.
هكذا تعامل مع الحرب الأميركية على العراق عام 2003، حين دعا مبكرًا في خطاب شهير له قبل أسابيع قليلة من الحرب الأميركية على العراق إلى ضرورة قيام طائف عراقي – عراقي يحول دون الاحتلال الأميركي – الأطلسي للعراق وما سيتركه هذا الاحتلال من انعكاسات على مجمل الوضع العربي والإسلامي.
بعد الاحتلال علينا ألّا ننسى خطابه الشهير في افتتاح "المؤتمر العربي العام الداعم للمقاومة العراقية" وذلك بعد أيام من احتلال بغداد، حين قال: "إذا توقّع الأميركيون أن يستقبلهم العراقيون بالورود والرياحين فأنا أقول لهم إن العراقيين سيواجهون الاحتلال الأميركي بالقنابل والرصاص"، وهو ما حصل بالفعل.
كما أن موقفه في الأزمة السورية التي انفجرت في آذار 2011، اتسم بالحرص على قيام حوار وطني بين النظام والمعارضة، وهو دور معروف لم يعجب حينها بعض الرؤوس الحامية في أكثر من مكان.
أما في لبنان، فالجميع يدرك من خطّط لإدخال لبنان في نفق حرب طائفية ومذهبية بعد اغتيال الرئيس الحريري في 14 شباط 2005، لكنّ حزب الله حرص بقيادة الشهيد السيد حسن على تفادي كل محاولة لتفجير الموقف الشعبي والسياسي، انطلاقًا من الحرص على وحدة اللبنانيين التي تشكل أبرز الضمانات لحماية المقاومة، وهو أمر تمثّل بحرص السيد نصرالله على تفويت العديد من الفتن التي أريد لها استدراج حزب الله إلى صراعات داخلية، ولعل أبرزها خطابه الشهير بعد اغتيال الشهيد أحمد محمود في محلة قصقص فقال: "لو قتلوا منّا ألف أحمد محمود لن يستدرجونا إلى معركة داخلية".
لعل حرص السيد حسن على أن يلتقي العماد ميشال عون قبل أن يصبح رئيسًا في كنيسة مار مخايل ويعقد معه ما عُرف بـ"تفاهم شباط" هو دليل آخر على حرص السيد حسن وحزب الله على بناء علاقات تتجاوز الاصطفافات الطائفية والمذهبية.
لا أنسى كيف أننا في أكثر من لقاء معه، أنا والوزير السابق بشارة مرهج والمحامي خليل بركات، كان السيد الشهيد يروي لنا عن سعادته باللقاءات الدورية التي كان يجريها مع الرئيس الحريري والتي كانت تصل إلى نتائج إيجابية، وكان الرجلان يحرصان أن تبقى غير معلنة حماية لها من قوى متضررة، محليًا وإقليميًا ودوليًا والتي قد يكون لها دور في تدبير عملية اغتيال الرئيس الحريري لمنع هذه اللقاءات من الوصول إلى نتائج تنعكس إيجابًا على الوضع في لبنان والمنطقة.
إن وحدوية السيد حسن كانت تتجلّى في خطبه ومواقفه وعلاقاته انطلاقًا من قناعته التي كان يعلنها مرارًا. "أن تكون مقاومًا يجب أن تكون وحدويًا... وكل انزلاق إلى ممارسة أو كلام غير وحدوي سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف المقاومة".
لم يكن التواضع في العلاقات والوحدوية في التطلعات في حياة الشهيد القائد السيد حسن نصرالله، أن يتكلّلا سيرته الجهادية والفكرية لولا اتسام الرجل بصدق لا ينكره حتى أكثر خصومه عداءً له، فلم يكن الصدق عنده واجبًا دينيًا وأخلاقيًا فقط، بل كان وسيلة لبناء علاقات سليمة بينه وبين كل الجهات والأطراف التي يتعامل معها.