اوراق مختارة

ظاهِرة حسن نصرالله القياديّة

post-img

أسعد أبو خليل/ جريدة الأخبار

مرَّت على القضيّة الفلسطينيّة شخصيّات كثيرة عبْر غيرِ قرْن من الزمن. في السنوات الأُولى كانت النُّخب من العائلات النافذة تقود التحرّك. في الثلاثينيّات، برز حزب الاستقلال الذي ضمّ قادة المعرفة الذين ثاروا ضدّ قيادات العائلات. لكنْ في كلّ تلك السنوات وكلّ تلك العقود، لم يُزعج قائدٌ إسرائيل أكثر ممّا أزعجها حسن نصرالله. عبد الناصر شكّل هاجسًا كبيرًا لإسرائيل، والحركة الصهيونيّة خصّصت ميزانية ومؤامرات وحروبًا متعدّدة لإسقاطه. لكنّ عبد الناصر لم يكن مستعِدًّا بعد، عند وفاته، للمعركة التي أرادها مع إسرائيل.

كان يعدّ العدّة لبناء الجيش المصري أوّلًا، مُعانيًا من حالة انهيار وفساد وتسيّب في القطاع العسكري. وحدَه نصرالله عمل على مسارَيْن منفصلَيْن لكن متزامنَيْن: واحدٌ من أجل بناء قوّة عسكريّة تدافع عن لبنان وتصدّ عدوان إسرائيل، وأخرى من أجل الإعداد للمعركة الكبرى من أجل تحرير فلسطين. هذا المشروع يفسّر لماذا تفرّغ العدوّ منذ هزيمته في حرب تمّوز لضرْب الحزب في الصميم. وكان مشروع العدوّ إنجازًا، باعتراف نصرالله في آخر إطلالة له. قوّة «الرضوان» كانت هاجسًا؛ لأنّه كان مُعَدًّا لها التقدّم نحو الجليل (خصّص العدوّ فرقة خاصّة لمواجهة قوّة الرضوان). وضخامة المشروع تفسّر عُمْق الخيبة التي أصابت الكثيرين بعد هذه الحرب الوحشيّة.

لم ينصرف قائدٌ للصراع مع إسرائيل كما انصرف هو. تخصّص في الشأن الإسرائيلي الذي كان يأخذ منه ساعات في اليوم. أخذ موضوع مواجهة إسرائيل على محمل الجدّ. يكفي أن تقارن هذه الحقيقة: لم يكن لمنظمة التحرير خبيرٌ في اللّغة العبريّة، فكانت تعتمد على مدرّسي مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة كلّما أراد فصيلٌ ما أن يترجمَ وثيقة عبريّة تسرّبت. حزب الله أنشأ مدرسة لتعليم اللّغة العبريّة. لم تخترق أيٌّ من فصائل منظمة التحرير شبكة اتّصالات العدوّ، مثلًا، كما فعل الحزب.

الذي ميّز شخصيّة نصرالله وقيادته: أنّه كان أبعد ما يكون عن الارتجال والعفويّة؛ لأنّه استوعب درْس السنوات الأولى من الصراع: أنّ الإعداد والعمل الدؤوب هما سرّ النجاح ضدّ إسرائيل في كلّ ميادين الصراع. عرفات كان يعتمد على الخبريات والانفعال: عرقلة مسار سرّي للتفاوض غير المباشر مع أميركا كان يمكن أن يؤدي إلى صليات كاتيوشا عشوائيّة من جنوب لبنان. وكان يعتمد على محمود عبّاس لفهم المجتمع الإسرائيلي (رفضت مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة أطروحة دكتوراه محمود عبّاس - التي قدّمها في جامعة باتريس لومومبا للصداقة بين الشعوب في موسكو- بسبب ما فيها من مغالطات ومعاداة لليهودية كيهوديّة وإنكار للمحرقة).

لم يُنفق العدوّ على فهم قائد في الصراع ومطاردته كما أفرد في حالة نصرالله. وكان ذلك ساريًا في كلّ دول الغرب. كان هناك تعطّش لمعرفة كلّ شيء عنه. وعندما قال دونالد ترامب في العام الماضي إنّه ذكي، ثار الإعلام اللّيبرالي والإسرائيلي واتّهمه بأنه يدافع عن نصرالله. لكنّ الأزمة لُفلِفت بسرعة عندما اتّضح أنّ حظوظ ترامب في النجاح عالية. لم يُرِد قادة إسرائيل إغضابه لأيّ سبب؛ ولهذا هم تغاضَوا عن تعبيرات معادية لليهود منه. الإعلام الغربي كتب الكثير عنه، وكان نصرالله في البدايات صبورًا في جلساته مع المراسلين الغربيّين.

مرّة أشارَ لي إلى عَلم لبناني قُربه قائلًا: كي يعرفوا أنّنا حزبٌ لبناني. قلتُ له يومها: سمعتُ قبل أيّام نائبًا في المجلس الأميركي يصيح ويرغي ضدّ حزب الله داعيًا إلى ضرب معقله في... الضفة الغربيّة. وكنتَ وأنت تقرأ عنه في إعلام الغرب ذلك، تتساءل عن سبب تمنّع إسرائيل عن اغتياله كما اغتالت قادة كُثرًا في تاريخ الصراع. قبل أكثر من عشرة أعوام، ألقيتُ محاضرة في كليّة الحقوق في جامعة تكساس وتناول الموضوع حزب الله ودَوره في المنطقة. وكان هناك العديد من الأسئلة من الحضور. وتبيّنتُ بين وجوه الحاضرين أمامي، في الصفّ الأوّل، الأدميرال بوبي إنمان الذي كان قد شغلَ لسنوات منصب نائب مدير وكالة المخابرات الأميركيّة.

كان متقاعدًا آنذاك. وكان اسمه قد شاع (قبل تقاعده) لأنّ بيل كلينتون أراد أن يعيّنه مديرًا للوكالة قبل أن يثور اللّوبي الإسرائيلي ضدّه احتجاجًا على ما قال إنّه انحياز منه ضدّ إسرائيل (يُسرّب الصهاينة في أجهزة الحكومة ودوائرها أسماء المسؤولين الذين لا يكنّون مودّة نحو إسرائيل، وكان من أبرزهم). سألني أحد الحضور عن احتمال اغتيال نصرالله وعن حالة الحزب في مرحلة ما بعد نصرالله. أجبتُ عن السؤال. وبعد المحاضرة كنتُ أتحدّث مع بعض الحضور، وإذ بالأدميرال إنمان يقترب منّي.

عرَّفَ بنفسه وقال لي: هناك السبب الأهم لتمنّع إسرائيل عن اغتيال نصرالله. سألتُه: ما هو هذا السبب؟ قال: لأنّ الحكومة الأميركيّة أفهمت حكومة إسرائيل بصورة قاطعة أنّه لا يمكن لها اغتيال نصرالله، وأنّ أميركا لن تسمح بذلك. فهمتُ من كلامه أنّ تداعيات الاغتيال كبيرة لدرجة أنّ أميركا لم تُرِد أن تتعامل معها، فأمرَت إسرائيل بالامتثال لأوامرها، ففعلت صاغرة كما تفعل عندما يأمرها رئيس أميركي - وهذه حالات من النوادر.

لم يُنفق العدوّ على فهم قائد في الصراع ومطاردته كما أفرد في حالة نصرالله. وكان ذلك ساريًا في كلّ دول الغرب. كان هناك تعطّش لمعرفة كلّ شيء عنه. وعندما قال دونالد ترامب في العام الماضي إنّه ذكي، ثار الإعلام اللّيبرالي والإسرائيلي واتّهمه بأنه يدافع عن نصرالله

لهذا، عندما اغتيل نصرالله أدركتُ أنّ القرار كان أميركيًّا أوّلًا وأخيرًا. أميركا هي التي تضع الحدود لأفعال إسرائيل: إذا كان هناك عمل ما ذو مضاعفات إقليميّة كبيرة فإنّ أميركا تفرض على إسرائيل إعلامها بالأمر وأخْذ الإذن. أي إنّ أميركا قرّرت أنّ الوقت بات مناسبًا للاغتيال، خصوصًا في إدارة بايدن التي لم تكن تضع حدودًا أو ضوابط لأعمال إرهاب إسرائيل وعدوانها. عندما اغتيل نصرالله، فكّرتُ كثيرًا بمسألة اغتيال قاسم سليماني. ولو تحدّثنا بمنطق الحسابات الدقيقة بين الأعداء (دُولًا ومنظمات) يمكن استخلاص ما يلي: من المنظور الأميركي المعادي للمحوَر، لو أنّ إيران ردّت على الاغتيال بقوّة (كما ردّ أحدٌ ما على اغتيال عباس الموسوي في الأرجنتين) لكان ثمنُ العمل بالنسبة إلى العدوّ يضع ضوابط مشتركة على إسرائيل وأميركا.

لكنّ هزال ردّ إيران (من المنظور الأميركي، أيضًا، بالرغم من حوادث الارتجاج الدماغي التي هلّل لها كثيرًا محوَرُ الممانعة في محاولة بائسة لتصوير الحدث على أنّه متناسب مع اغتيال الرجل الثاني في المحور، بعد نصرالله) دفع بإسرائيل إلى الإقدام أكثر وخرْق كلّ الخطوط الحمر في حربها ضدّ المقاومة. والاغتيالات الإسرائيليّة في داخل سوريا (وهي طاولت الزعيم العسكري الأوّل في المقاومة، عماد مغنيّة)، أو عدم الردّ عليها أو هزال الردّ، لم تؤدِّ إلى دفع إسرائيل للتردّد أو الامتناع عن ارتكاب المزيد. كان واضحًا أنّ المحوَر لم يُرِد التصعيد وأن إيران كانت في مرحلة مهادنة مع الغرب لأسباب تتعلّق بالوضع الاقتصادي الصعب. العقوبات الأميركيّة باتت أقسى وأشمل بكثير من زمن العقوبات الوحشيّة على العراق في زمن صدّام. أميركا وإسرائيل تبتكران طرائق جديدة دائمًا لزيادة معاناة الشعوب والإمعان في التجويع لأسباب سياسية أو رمزيّة.

سمعتُ مقدّمة برامج تلفزيونية تقول إنّ نصرالله كان ظاهرة إقليميّة. هو بات أكبر من الإقليم: إسرائيل وأميركا علِمتا أنّه الشخص الأوّل في المحوَر برمّته، بالرغم من صدارة المُرشد دينيًّا. نصرالله كان هو المُخطِّط للمحوَر وصانع القرار في كلّ ما يتعلّق بالصراع مع إسرائيل. حتى سياسات إيران كانت تحتكم له. كنتَ ترى ذلك فقط من خلال صور اجتماع رؤساء إيران وقادتها معه. طبعًا، في مماحكات الصراع اللّبناني وبروباغاندا الخليج الحليف لإسرائيل: كانوا يصوّرونه على أنّه تابع لإيران تمامًا مثلما أنّ السنيورة أو جعجع أو شيعة الإعلام السعودي يتّبعون السعوديّة. نتنياهو فهم دَورَه أكثر من خصوم الحزب في لبنان، إذ قال إنّه كان صانع القرار للمحوَر وليس تابعًا لإيران. نصرالله كان يمكن أن يكون قائدًا أوحد للعالم العربي لو أنّه كان سُنيًّا، أو في عالم عربي يخلو من الانقسام المذهبي الذي غذّتْه المؤامرة الخليجية-الغربية-الإسرائيلية.

الغرب فهم دَورَه وكان هناك حرص على متابعة خُطبه. مع كلّ محبّتي وإعجابي وتأثّري بالراحل العظيم، جورج حبش، فإنّ العدوّ لم يكن على الأرجح يتابع خُطبه. وخُطب عرفات كانت للتفكّه: جبل النار، عالقدس رايحين، بالملايين، اسمع، يا شارون، الخ. قد تكون خُطب نصرالله هي الوحيدة التي كانت تخضع لترجمة فوريّة وبثٍّ مباشر من قِبل إعلام العدوّ. كانت خُطبه تحوي مضمونًا مدروسًا وتستطيع أن تقارن خُطبه بخُطب قادة المقاومة الفلسطينية أو الحركة الوطنيّة. ظاهرة مختلفة بالكامل.

علِمَ نصرالله، بحسب شهادة أسامة حمدان، أنّه يرتكب مجازفة كبرى في فتْح حرب الإسناد. لم يستطع، بالرغم من حذر إيراني للمرحلة، أن يقف متفرّجًا على حرب وحشيّة على غزَة. هنا، غلّب حسّ التزامه بشعب فلسطين على حساباته الدقيقة في الصراع مع إسرائيل. هل يعني هذا أنّ نصرالله أخطأ الحسابات؟ هذا موضوع لا يمكن الإجابة عنه بعجالة أو بحساب الساعة، بل موضوع تقرّره الأجيال. يُنظر إلى قرار الفيتكونغ بهجوم «تِتْ» في العام 1968 في الحرب الفييتناميّة بنظرة مختلفة عن حساب فشله يومها. هذا صراع طويل، وأيّ نظرة لمفصل في الصراع خارج سياق أمد الصراع يعزل الحدث عمّا سبَقه وما سيلحقه. الأكيد أنّ نصرالله هو اليوم الزعيم العربي الوحيد الذي وهب حياته لأجل فلسطين. عندما ألقى خطبته الأخيرة، وهي خطبة وداعيّة لمن يعود إليها، علِمَ أنّ قراره الاستمرار في مساندة غزّة سيكلّفه حياته.

انتشى الإعلام الصهيوني في الغرب باغتيال نصرالله، لكنّه تعامل مع الموضوع بحذر. أذكر أنّ إسرائيل ودُعاتها احتفلوا بنهاية حزب الله في العام 1992، كما احتفلوا بوأد القضيّة الفلسطينيّة باغتيال عرفات ورفاقه من قَبله. نصرالله، مثلُه مثل أنطون سعادة، كان -بخلاف عبد الناصر-رجل تنظيم قبل أن يكون خطيبًا تحريضيًّا فاعلًا. هو مسؤول عن بناء التنظيم وإعداد القادة وخلْق بنية عسكريّة لم يسبق لها وجود في كلّ تنظيمات المقاومة. حتى تنظيم «حماس» في غزّة يدين له بالكثير من الأفكار والأساليب التي أثبتت نجاحها في الحالة اللّبنانيّة.

التحدّي الكبير أمام تلاميذ نصرالله هو القدرة على الاستمرار وإعادة البناء والتطوير بغياب القائد الفذّ. يُثبت تلاميذ نصرالله نجاح مدرسته في الحدّ الذي يستطيعون فيه الاستمرار من دونه. هو لم يكن يؤمن بتنظيم الشخص. هو آمن ودعا إلى تنظيم المؤسّسة الذي يرتبط بالأمّة جمعاء. الخسارة التي لحقت بالحزب كبيرة وكبيرة جدًا، لكنّ التحدي الإسرائيلي لا يزال كبيرًا، وربّما هو أكبر من قبل، لأنّه استطاع في الفترة الأخيرة أن ينتقم للكثير من هزائمه أمام المقاومة في لبنان. هذا الصراع استمرّ بغياب قائد مِن قبل وهو سيستمرّ. سنرى ما إذا كانت مدرسة نصرالله التنظيميّة قد أنتجَت قادة جُددًا يستطيعون استخلاص الدروس من المرحلة الماضية والتقدّم نحو مرحلة جديدة أكثر قسوة. الصهاينة في حالة انتشاء إقليمي خصوصًا بعد تنصيب إقليمي-غربي لنظام سوري جديد لم ينفكّ يصدر التطمينات لإسرائيل منذ وصوله إلى الحُكم. لكنّ قرنًا من الوحشيّة الإسرائيليّة لم ينهِ القضيّة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد