زينب أحمد حمود/ موقع المنار الإلكتروني
تحتار عند كتابتك عن “البحر”، أي الأقلام ستوفيه! تشعر بالمسؤولية، وتخاف أن يخونك التعبير. تقرأ الجملة عشرات المرات، تسمع صوته أضعافًا، وتُقلّب الأبجدية علّك تجد موطئ الوصف. كيف لا، يا وجه الله، يا شمس هذه الأمة، يا أبانا!
السيد، الاسم الذي كان وما يزال حاضرًا في المنطقة العربية ومعظم دول العالم. كان مؤثرًا في خطاباته الدينية، وثائرًا في تلك المتعلقة بالقضايا الوطنية والعربية، وهادئًا في جميع المواقف التي تحمل السلام لشعبه وأبناء بلده.
لا يمكن اختصار تأثير خطابات الشهيد السيد في بضع سطور. فخطاباته جمعت بين القوة والشجاعة، الصلابة والتحدي، التدين والتسليم، وأيضًا اللطف والمحبة. وقد شكلت هذه الخطابات مدرسة متكاملة تُعتبر إرثًا عظيمًا لمحبيه، وتوثيقًا لأهم مراحل تأسيس وتصاعد حزب الله.
قبل الخطاب وبعده
لم يترك السيد الشهيد قضية أو مناسبة أو حدثًا إلا وتحدث عنها. من خلال خطاباته، قدم كل الأجوبة والرسائل للأصدقاء والأعداء على حد سواء. بعد كل خطاب له، كانت القنوات التلفزيونية المحلية والعربية، وكذلك تلك التابعة للعدو الإسرائيلي، تخصص فترات مباشرة تحليلية لمضمون خطابه، وتفسير لغة جسده وتعبيراته، ورصد الرسائل التي تُدرج ضمن الإطار المكاني الذي يظهر من خلاله، مع خلفية المشهد وكيفية ظهور وجهه الكريم.
لم يكن ذلك مقتصرًا على القنوات التلفزيونية فقط، بل شمل أيضًا الصحف المكتوبة ووسائل التواصل الاجتماعي. كانت حالة انتظار غير مسبوقة تسبق أي خطاب له بأيام، ومن ثم كان الناشطون في الفضاء الافتراضي يقومون برصد جمل من خطاباته ومشاركتها مع المتابعين أثناء الخطاب وبعده بساعات.
في حواراته ومقابلاته الخاصة التي كان يطل فيها، كان يُوضع مقدم الحوار في خانة التقييم القاسي من القاعدة الشعبية والمُحللين. كان المُحاور، مهما علا شأنه المهني ومهاراته الإعلامية والحوارية، تُوجه إليه لائحة من الانتقادات، إلا أنه لا أحد يُنكر أنها لحظة لن تتكرر لأي إعلامي في مُحاورة الأمين، وتمناها كثيرون وحظي بها قليلون. أما محبة المتابعين فاختصرها الإعلامي سامي كليب في حوار على شاشة الميادين في العام 2018 عندما قال: “أؤكد لك سماحة السيد، إنه حين وضعنا الإعلان عن هذه الحلقة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ملايين الناس يرسلون إليك رسائل حب.”
الخطاب الشامل والدقيق
لم يترك السيد الشهيد أي تفصيل في خطابه دون مراعاة للحضور والجمهور والمستمعين والمناسبة. أفردت دراسات خاصة لتحليل خطاباته منها دراسة تحت عنوان “الأبعاد التداولیّة في الخطاب السياسي للسيّد حسن نصر الله وفقًا لآراء جون سيرل.” هدفت الدراسة إلى الكشف عن أبعاد الحجاج التداولي في خطاب السیّد نصر الله، وعن المقاصد والغايات التي أراد الإضاءة عليها من أجل خلق نهضة فكرية، قوامها الوعي بالقيم الدينية والسياسية والاجتماعية والوطنية. على سبيل المثال، كان يبادر بالاعتذار (أود أن أعتذر من جميع الإخوة والأخوات المحتشدين في الخارج تحت المطر)، وكان يُعزي عائلات الشهداء الذين ارتقى أبناؤهم في سبيل الله (أتوجه في البداية إلى الحبيبين العزيزين والوالدين الشريفين: أبو عماد وأم عماد بالتبريك والتعزية وأقول لهما: مبارك هذا الاصطفاء الإلهي).
كما كان يغضب من أجل الحق (لبنان الذي قدمنا على أرضه أغلى قادتنا، وأزكى علمائنا، وأحب إخواننا وأبنائنا ونسائنا وأطفالنا شهداء؛ لبنان هذا لن يكون إسرائيليًا… رغم أنوف الأقزام)، ويواسي أهل بلده (أود في البداية أن أتوجه بالتعزية والمواساة إلى عائلات الشهداء، شهداء الجيش اللبناني، وشهداء أهلنا الطيبين في مدينة طرابلس)، ويشعر بالألم (لقطاع غزة، لشعبه الأبي، ومقاتليه الشجعان من كل فصائل المقاومة؛ هذا القطاع المحاصر، هذا القطاع المجوّع، هذا القطاع المظلوم)، ويشكر (أتوجه بالشكر إلى مراجعنا العظام، وإلى جميع المرجعيات الإسلامية والمسيحية)، ويُهنئ (الدعاء بالتوفيق لكل الذين شاركوا في هذه الدورة السنوية وفازوا ونجحوا) وينصح ويُرشد (لنعط القرآن أولويته الكبيرة لنتلوه ونقرأ آياته ونتأمل فيها ونتدبر)، ويوجه ويؤكد الحقائق (يجب التأكيد أن فلسطين التي نتحدث عنها هي فلسطين كل فلسطين من البحر إلى النهر).
خلصت الدراسة إلى أن خطاب السیّد الشهيد يحمل عناصر الثبات دون إلغاء الآخر أو رفضه؛ لذلك هو يدعو دائمًا إلى الحوار والتفاهم، للوصول إلى مشتركات، وحلول للمشكلات التي يمرّ بها الوطن. أما أفعاله التعبيرية فكانت تعبّر دائمًا عن غضبه تجاه العدو الصهيوني، ومحبته للجمهور، وافتخاره بالشهداء والمضحّين.
عَبرة صادقة
لم يكن هناك حاجزٌ بينه وبين عَبرته. كان مباشرة أمام أنصاره يبكي، ولسان حالهم: “ما بال عينك منها الماء ينسكب… كأنه من كلى مفريةٍ سرب.” كان بالنسبة إلى اليمنيين أبرز المدافعين عن مظلوميتهم. فلم تخلُ خطاباته من التأييد والانحياز الكامل للشعب اليمني. وقد اعتبر الشهيد السيد في خطاب له في الأول من مارس 2016م أن أشرف وأعظم ما فعله في حياته هو خطابه في ثاني يوم من العدوان على اليمن، مؤكدًا أنه لا توجد مظلومية على وجه الأرض توازي مظلومية الشعب اليمني، وبكى لهذه المظلومية أمام شعبه مباشرة. بكى أيضًا سيدنا الشهيد في إحدى خطبه عبر الشاشة في مراسم “عاشوراء”، عندما ذكر جده الحسين بن علي عليهما السلام. لم يستطع السيد إكمال جملته حتى تأثر أنصاره، فرفعوا له حناجرهم صادحةً بالتلبية. وفي كل مقاطع الأدعية التي كان يقرأها على مسامع محبيه، كانت تخنقه العبرة.
وجه حزب الله
تحدث خصومه عن هالته وتأثيرها من خلال خطاباته. بعد ارتقائه في 27 سبتمبر/أيلول 2024، كتبت لوموند: “بعمامته السوداء التي كانت مخصصة لذرية النبي، ونظارته الرفيعة ولحيته الكثيفة، ظل حسن نصر الله وجه حزب الله لأكثر من ثلاثة عقود. كان الزعيم الشيعي يحمل مصير البلاد بين يديه، في الحرب وفي السلم. الزعيم الكاريزماتي، الذي يحظى باحترام ديني من أنصاره والذي يحترمه الجميع لمواهبه كاستراتيجي، وكان محل إعجاب في الشرق الأوسط، يتمتع بالتأثير على مجرى التاريخ بحيوية لا مثيل لها، ومن خلال خطابات طويلة مشبعة بالإشارات الدينية، تتخللها روح الدعابة والتهديدات المدعومة بإصبع مرفوع. لقد عاش نصر الله، العدو اللدود لإسرائيل.”
أيضًا، كتبت New York Times واصفة سيدنا الشهيد بأنه “خطيب مفوّه يتمتع بإتقان قوي للغة العربية الفصحى. وهو يحرص في خطاباته على الإشارة إلى استعادة الرجولة العربية المفقودة، وهي الرسالة التي يتردد صداها في مختلف أنحاء المنطقة.”
غدًا سيدي !
عند كل خطاب يعتلي صوتك الصادق، وفي كل مرة يعلو فيها، كنا نعتلي معك. ترتفع قبضات القلوب قبل الأيدي لنقول لك: “أوفِ لنا الكيل”. كبرنا معك، سيدي. تحت منبرك نشأنا وتربينا. كنا نلوذ بخطبك عند اشتداد الأسى، ونلتهم أحرف نصوصك وكأنها مُقدسٌ نازل.
غدًا، سيدي، سيكتب التاريخ، وتقرأه أمم غيرنا، أن الأضداد كلها كانت تنتظرك: المحب والكاره، الصديق والعدو. أما نحن يا أبانا، فالانتظار لنا شأنٌ آخر. ففيك رأينا آيات الله الكريمة. رأينا فيك “إن ينصركم الله فلا غالب لكم”، ورأينا فيك “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله”. وأيضًا، عرفنا معك “كيف تقاوم العين المخرز”، وما رأينا معك إلا كل جميل. وفيك عرفنا معنى “من خاف الله أخاف الله منه كل شيء”.
يا سليل الهواشم، بالفم الملآن، يا حبيبنا، سنردد آهات الوداع بكل سنوات عشرتنا معك، سنشد الرأس، وبأكف الغلابة والفقراء، سنلطم القلب… بصوت الموسوي سندعو لك، وبعنفوان الراغب سنرفع اسمك، وبحنان الهاشمي سنواريك. وعذرًا سيدي، غدًا سنصلي “الوحشة” لأيامنا من دونك.