اوراق خاصة

آية الله السيد حسن نصر الله شهيد الإنسانيّة ورمزها الذي لا يقهر

post-img

د. عبدالله عيسى/ كاتب وباحث لبناني

"الإنسان" هي المفردة العميقة الشاملة لفطرة سليمة ونقية صُنِعَتْ على عينِ الله، من مصاديقها البارزة، إن لم نقل عنوانها الأسمى، هو آية الله السيّد حسن نصرالله - رضوان الله عليه.

 اختصر العبد الصالح والعالم الربّانيّ، ومنذ صباه، جدليّة العقل والقلب الملتحقين بإشباعات الوحي والهداية الإلهيّة، يقوده انسجام تام لا هشاشة أو تهافت فيه، كمشكاة أنوار تسطع بالحريّة المتزنة والرصينة والكاسرة لإكراهات الطغاة، والتي لم تنطق إلا بالحق أمام كلّ سلطان جائر، مع حكمة تضبط أولوياتها على خطى نبي الله إبراهيم بتحطيم الشيطان الأكبر فالأوسط ثم الأصغر. وهنا إبداعه في حياكة البصيرة ضمن تشعّبات المواقف المعقّدة ملتزمًا الإدارة بالأهداف الواضحة والمشخّصة والمشتقة من مبادئ وقيم حاكمة، لا بالمعنى الوظيفيّ، إنما المتناسبة مع المهمّة المركزية بطرد الاحتلال الإسرائيليّ من لبنان تمهيدًا للإسهام الفعّال في إضعافه واستنزافه حتى زواله، وفقًا لنهج الإسلام المحمديّ الأصيل الذي رفع رايته الإمام الخميني وصانها بعده من الإنحراف الإمام الخامنئيّ.

انخرط السيد نصر الله مبكّرًا في العمل الديني والسياسي، فقد جذبته قامة الإمام موسى الصدر في حركيّته ورؤيته، استمد جلاله ومنهجه من الإمام روح الله الخميني فاستقام به سمت الصراط عقيدة وثورة وعرفانًا وولاءً، شغفه المفكر الإسلامي السيد محمد باقر الصدر، وأقام علاقة ممتازة مع السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين وأعلام آخرين، في قم والنجف والأزهر ومختلف بلاد المسلمين.

عمامته تختزن مسيرته، حسينيّ الإحياء، عاشورائيّ السيرة وعيًا وعاطفةً وحماسةً، شكّلت قضيّة صراع الحق ضدّ الباطل بؤرة إشباعه واستقطابه واختلاجات فؤادة وحرارة إيمانه التي انبعثت بين الأجيال ومختلف الشرائح وعبر الأثير، كأنها إرثه الذي ادخره لشاكلة استشهاده بأبعاده التوحيديّة والقيميّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وهو القابض على العهد "ما تركتك يا حسين".

 لم تلوثّه عملية الأخذ بالأسباب ولا الانغماس بالتحدّيات نأيًا عن الإخلاص لربه وقضيّته وإنسانه، بل غدا نموذجًا للقائد الذي يجمع بين البعدين الوطنيّ والعربيّ والإسلاميّ، بل ويتعدى تأثيره ليصبح قائدًا أمميًا يُلهم حركات المقاومة والتحرّر في مختلف أنحاء العالم، متخذًا من الاشتراك في الفطرة الإنسانيّة مرتكزًا للعمارة في "عقيدة المقاومة".

برع في حضوره الإنسانيّ وسلّط الضوء على علاقات الإنسانيّة العميقة التي جمعته بقائده ومعلّمه وأمينه العام السيّد عباس الموسويّ، صاحب العلاقة القريبة من الناس والخادم الذي كرّس مقولة "سنخدمكم بأشفار عيوننا"؛ وكذلك لم يتوانَ عن تأكيد علاقته الخاصة بولي الأمر المفكّر والفقيه والقائد الإمام الخامنئيّ، فمارس التربية بالقدوة منهجًا تربويًا راسخّا في أعماقه وأقواله وسلوكه، تتقوّم به الرؤى ويستقيم به المسار؛ حتى غدا بوضوح لا يشوبه التباس سيّدًا وجنديا.

 سيّدٌ بمعيار الولاية تبني العزة الإيمانيّة، "ولله العزّة ولرسوله والمؤمنين"، وجنديٌّ يتمحّض بالإخلاص والوفاء والإيثار والفداء فيُفني الولاية بالتوحيد شرطًا مكينًا لمعالم الوحدة في دوائرها داخل مجتمع المؤمنين بالجهاد، من حزب الله إلى مجتمعه القريب بالحرص الحاسم على الوحدة مع حركة أمل، ثم إلى المجتمع اللبنانيّ المقاوم بشكل خاص. إذ إنّ المجتمع اللبنانيّ، بصورة أعم، ثم إلى الوحدة الإسلاميّة على أسس وقيم سامية، فالوحدة القومية في خدمة القضايا العادلة، فالجبهة الإنسانية الموحّدة للمستضعفين ولأهل الكرامة في العالم بوجه الطاغوت الاستكباريّ الأميركيّ وشراراته وشروره الخبيثة.

برز آية الله نصر الله رمزًا للمقاومة والتصدّي للهيمنة الخارجيّة، خاصة في مواجهة "إسرائيل" والتدخّلات الأميركيّة والغربيّة في منطقة غرب آسيا، ساعيًا إلى إضعافها، إنطلاقًا من لبنان وجواره وصلاته المتوسّطة والبعيدة. تصدّر التأثير في المواقف، انطلاقًا من عمق إيمانه واستقامته وتكامله الذاتيّ، ومن رساميله المعرفيّة والثقافيّة والسياسيّة والنضاليّة، وأرصدته في التضحية بالعمر والجهد والمخاطر والولد، ومن علاقته الخاصة بالولي الفقيه وبمجتمعات عابرة في الزمان والمكان لتقسيمات سايكس- بيكو، ومن منسوب التهيّب لعدوه منه وتصديق تجمّعاته وقطعان مستوطناته له؛ وكل ذلك في خدمة الإنسانية وبنائها على مكث، وإزالة موانعها بالصبر والأناة وتحمّل الآلام والمثابرة بالعمل وبث الأمل.

 صدح بالمقاومة ناطقًا رسميًّا مفوّهًا جامعًا مانعًا، وبسيطًا يمسك باللب، ويهندس الوعي باحترافية الحرب النفسيّة الصادقة، منذ تقلّده الأدوار الأولى إلى تسنّمه الأمانة العامة، وما تدرّجت به تجربته وخبرته إلى كونه صانع الانتصارات ومغلاق الهزائم وعملاق التوهين بالعدو من بيت العنكبوت، إلى زرعه مقولته الرائدة "نكون حيث يجب أن نكون"، وهي في الصميم نزعة إنسانيّة متعالية عن حواجز وقيود الجغرافيا عندما تحتمها الضرورة، وتنتمي إلى الاهتمام والانهمام وفقًا للاستطاعة التي لا تستسلم للواقع؛ بل تتحمّل مسؤوليتها مقابل تحديّاته بشجاعة وحكمة من الفهم إلى التدبير والتبيين.

لذلك تراه الأخلص للبنان المقاوم والوطن النهائي لأبنائه، والأوضح في التزامه بفلسطين القضية، والأشجع في موقف نصرته ليمن العزّة والشهامة العربيّة، والأحكم في إدارته للعلاقة مع سورية داخل لبنان وإبان خروجها منه، ومع سوريا وسلامتها ووحدتها فيها أثناء المؤامرة عليها مهما بذل لذلك من ماء وجه أو وافر تضحيات، والألهف لإنقاذ العراق من الغزو الأميركيّ تارة ومن استباحة سيادته وتلبية لنجدته، والأوفى للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، والأصدق مع شعب البحرين، والمستجيب لكلّ نداء فيه لإقامة الدين أو نفي الظلم والاحتلال موطئ قدمٍ يُستطاع.

بات آية الله نصر الله ركنًا رئيسيًّا في بلورة محور المقاومة، فالاستجابة للإعلان عن جبهة عالمية قيد التشكّل، يُستقطب إليها كل التقاطعات الإنسانيّة في مواجهة الإرهاب التكفيريّ الذي تستخدمه دوائر الاستخبارات الأجنبيّة والعميلة تارة، وفي مواجهة الإبادة الإنسانيّة لا سيّما ما شهدته غزّة في محطّات عدّة، وضد الحركة العنصرية الصهيونيّة وداعميها.

غزل نسيج عباءته من ترابيّة الفقراء، لم تستنزف السلطةُ روحَ تواضعِه، على الرغم من تنامي مكانته حتى بات محور المحور باعتراف الأعداء، ولم تأخذه مآخذها ولم تحجزه بحجابها الغليظ عن سيره وسلوكه نحو الله في تكامله الإنسانيّ واستيعابه لتناقضات وهواجس الحلفاء ولمكر الخصوم والأعداء، حتى بات الناس يتبارون في حبّه على اختلاف ثقافاتهم وطبقيّاتهم ومناطقهم ولغاتهم، فلا يتنازل عن التسابق في حبّه أحد.. وبات الحب مبثوثًا في الأجيال تردّد أدبياته منهجًا خالدًا، لا يعرف إلا الله لشهيد الإنسانيّة وشاهدها نفوذه وتفاعله، حتى تجلّى اليقين بأنّ آية الله السيّد حسن نصر الله هو رمزها الذي لا يقهر، وتلك الليالي والأيّام والعقود في الميادين والأمم تُنبئُنا أخبارها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد