خاص موقع أوراق- زينب صالح الطحان/ كاتبة وباحثة لبنانية
لطالما كانت الطائفة الشيعية في لبنان مهمّشة؛ بل وحتى منبوذة من أرباب السلطات المتعاقبة مع تأسيس لبنان الكبير على يد الجنرال الفرنسي غورو في العام 1920.. وإن يصبح الشيعة، اليوم، بعد أربعين عقدًا من الكفاح المسلح ضد العدو الإسرائيلي، طائفة لها حضورها السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي الكبير، لا يبدو أنه واقع يريد الأخرون في هذا الوطن الصغير الاعتراف به.. وهذا تطور طبيعي مع كل مقموع؛ إذا يقول مارتن لوثر كينغ: "لا يمكن أن يبقى الناس المقموعون على حالهم إلى الأبد. إذ إن التوق للحرية يتجلى في نهاية المطاف".. فهل هي نظرة عنصرية بحتة أو دونية لشريكهم الآخر في الوطن أم أنّها أزمة هوية متجذرة فعلًا ؟
يُقال تُعرف الأوطان بأبطالها وعظمائها؛ و"ما هو الوطن؟ هذا ليس سؤالاً تجيب عليه وتمضي، إنه حياتك وقضيتك معا"؛ كما يقول الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش.. ولكن لن تجد لهذه القاعدة استثناءً إلا في لبنان.. هذا اللبنان الرسمي الذي ما تزال سلطاته المتعاقبة ترى أنه كيان ضعيف وحروب الآخرين تُدار على أرضه.. وما تصريح رئيس الجمهورية الجديد جوزيف عون إثر زيارة وفد إيراني قوله: «لبنان تعب من حروب الآخرين..».. إلًا إصرارًا على هوية لبنان الكولونيالية الذي نشأ بفعل إجراء استعماري قسّم بلاد الشام؛ وخلفية هذا النشوء ما يزال فاعلا في أداء النظام اللبناني؛ فمن الطبيعي ألا يشعر هؤلاء المخلصون للاستعمار وثقافته بأهمية الوطن والانتماء إليه بالدم والتضحيات..
إذا راجعنا تاريخ نشوء لبنان إلى اليوم؛ المعارك االتي خيضت ضد الاستعمارين العثماني والفرنسي، والتي تخاض حاليًا ضد الاحتلال الإسرائيلي، قام بها أهله الأصليون الذين كانوا على هذه الأرض قبل تقسيم سايكس- بيكو الشهير، وفي مقدمتهم الطائفة الشيعية التي يعود وجودها في جبل عامل(الممتدد من جنوب لبنان إلى بقاعه) إلى زمن الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان مع الصاحبي الجليل أبي ذر الغفاري.. وهذا بخلاف عشرات العائلات التي قدمت من بلاد حوران وحلب السورية واستوطنت بعض جغرافية لبنان، منذ قرن وأكثر قليلًا.. وهي التي أولاها الاحتلال الفرنسي السلطة.. فأيهم أكثر أصالة وانتماء؟ وكيف يحق لحفنة بشر مترفين لم يدافعوا عن لبنان يومًا أن يتهموا طائفة متأصلة بجذورها وجهادها ؟
لذلك؛ نعيد السؤال: هل حربنا ضد المعتدي الإسرائيلي الذي يحتلنا أرضنا هي حرب الأخرين على أرضنا؟ أو ليس معيبًا بحق بلد يعدّ نفسه سياديًا ألا ترى جميع أطيافه وجوب محاربة هذا المحتل؟؟ هل لآن الأراضي المحتلة أصحابها من الشيعة الطائفة الضعيفة، والتي لا يريدون لها أن تقوى شوكتها بحال تحررت أراضي أبنائها؟ أم أنهم يدّعون زورًا معاداة "إسرائيل" وهم في الحقيقة يريدون معها سلامًا وتطبيعًا؟
انطلاقًا من هذا "المنطق" العقيم؛ تّرى هل مجديًا نقاش هذه الفئة المتحكمة بالسلطة التي تتهم الطائفة الشيعية دومًا بأصالة انتمائها للوطن لبنان؟
تشييع جثمان الشهيد الأقدس الأمين العام السيد حسن نصرالله يثير مجددًا هذه التساؤلات، ولكن هذه المرة بعمق أشد وطأة وأكثر عمقًا في مرحلة يبدو أنها مفصلية في تأريخ لبنان. إذ إنّ الحملة المغرضة ضد الطائفة الشيعية تزداد قوة وعنفًا، بل وأكثر وقاحة وصراحة من قبل بكثير، حتى بلغ الحد ببعضهم أن تواطئ مع العدو خلال الحرب الأخيرة ضد مجتمع المقاومة، وتماهى مع سردية العدو إلى أبعد الحدود.. فأي مفارقة هذه؛ حين يستشهد القائد الأسمى لهذه المقاومة فتتكالب الأفواه قضمًا وشتمًا وشماتة وتفتح الأبواب على مصرعيها لمحاربة هذا المجتمع، حتى الاستفزاز الأخلاقي الرخيص.. وتهديدنا بالترحيل والقضم والإنهاء والإقصاء..وأي مفارقة تسجل في بلد المقاومة ولا يحضر تشييع سيدها الأسمى من أعلى السلطات؟ أأنتم أكبر منه قامة أو علمًا أو حضورًا مؤثرًا أو بطولة قومية وعالمية جابت الأفاق؟ أيتقاطر لحضور هذا التشييع التأريخي الناس من أصقاع الكرة الأرضية في حين تجد أعلى رئيس السلطة محايدًا نفسه عن حضوره؟ أو يعفيه إرسال ممثلٍ عنه بحجة أنها مناسبة حزبية والرؤساء لا يحضرون المناسبات الحزبية؟ فأين الوطنية الحقة في هذا الموقف؟
كلنا يعرف أنه تهرّب من الاعتراف بدور هذا البطل الاستثنائي في تاريخ لبنان.. ولطالما كان هذا ديدن رجال السلطة عندنا، كبارنا وأبطالنا ومجاهدونا يصفونوهم في كتاب التاريخ الرسمي بقطّاع الطرق والمتمردين..لقد اعتاد أجدادنا وأهلنا على هذا الإنكار الدائم.. وللمفارقة المدهشة إننا كنّا دومًا من نصنع تاريخ لبنان وننقذه من أزماته التاريخية على الرغم من كل محاولات التعتيم والإنكار والتحريف والتجاهل.. وهذا ما يعترف به عدد من المؤرخين في كتبهم، حتى ممن ينتمون مذهبيًا إلى هؤلاء..
لكنّنا اليوم، مع جيل سيد المقاومة وشهيدها الأسمى، نتجذّر أكثر في تاريخ لبنان، قوة وبأسًا بالدم والتضحيات، كي يبقى لبنان الوطن الحق لأبنائه الأصليين.. ولم نكن ننتظر من "معاليهم" "تشريفنا" بحضور هذا التشييع التاريخي والكوني؛ لأنّ دمنا الطاهر هذا المقدس الذي أريق على مذبح الشهادة ستشهد له الأمم كلها التي قدم منها ممثلون كثر إلى تكريم هذا القائد الأممي العظيم..
ستكتب الأمم التي شاركت في هذا التشييع الكوني والتأريخي أنّ في لبنان رجلًا صنع مجتمعًا متناقضًا تمامًا مع الاستخطاطات الإمبريالية الثقافية العاملة في هدم السرديات الكبرى، مجتمع له أخلاقياته وأدبياته المغايرة في صنع تاريخ مشرّف ومشرق لن تهزه الانكسارات والحروب والمؤمرات، وبشهادة هذا العملاق سيصنع أمّة ستبدأ بوضع أسس جديدة في رؤيتها للصراع مع الإمبريالية.. وفي أن الأمة و "الوطن شجرة طيبة لا تنمو إلا في تربة التضحيات، وتسقى بالعرق والدم"؛ وغريب أن تعرف أنّ صاحب هذا القول هو الاستعماري البغيض "ونستون تشرشل"..! فما يخصّ أوطانهم هي مقاومة مشرّفة، لكن مقاومتنا يعدونها إرهابًا..!
هذه معادلات؛ ستغيرها الدماء الطاهرة التي تبذل وتغيّر الشعوب على طريق الحق، وليس هناك من حق أسطع من تحرير فلسطين.. لذلك دم القائد الأسمى شهيد الأمة السيد نصرالله هو ما سيحفر عميقًا في عملية هذا التغيير..