نزار نصر/ جريدة الأخبار
المشهد الإعلامي حول سوريا سوريالي. بخلاف كلّ السنوات السابقة وحتّى الأشهر القليلة الماضية، يتعاطى الإعلام العربي مع المجازر في سوريا منذ أيّام كأنّها تحصل في عالم موازٍ، فبات ينطبق عليه مثال «الأطرش بالزفّة». لكنّ الفارق أنّه «يتطارش»، أي يختار «الطرَش» بنفسه! في الأيّام الأولى من بدء التوتّرات، لم يصل خبر واحد عن أيّ جريمة أو ارتكابات، وأُكملت البرمجة كالعادة، رغم أنّ التهديد بالمجازر بدأ قبل أيّام من حصولها، فيما تدفّقت الصوَر والمشاهد من ليلتها الأولى، ولا سيّما على منصّات التواصل الاجتماعي.
صحيح أنّ على هذه المنصّات الكثير من الأخبار المضلّلة من الطرفَين، وبات يصعب معرفة المشهد الحقيقي من ذاك الكاذب، هذا إن لم يكن حقيقيًّا لكن مرفقًا بعنوان يغيّر سياقه وينسف «حقيقته» من أساسها.
غير أنّ هناك صفحات ومؤسّسات موثوقة، غالبيّتها لم تكن مؤيّدة للنظام السابق، ويبدو أنّها لا تؤيّد النظام الحالي، فتنقل التجاوزات بحقّ المدنيّين أيًّا كان مرتكبوها. لذا، من المؤكّد أنّ وسائل الإعلام العربية التي اتّكلت على أخبار هذه المؤسّسات طوال أكثر من عقد في كلّ شاردة وواردة، على علم بما يحصل، لكنّها تختار التجاهل نظرًا إلى أنّه لا يتّسق مع أجندتها.
كما من الواضح أنّ هناك اتّجاهًا صوب تصوير الأمور على أنّها «اقتتال طائفيّ» محض، فتتمّ أبلسة الطائفة العلوية، بينما يؤبلس بعض مَن في الطرف الآخر الطائفة السنّية بأكملها، فيما الواقع أنّ جماعات تكفيرية لا تمثّل السنّة ترتكب جرائم بحقّ علويّين ومسيحيّين وشيعة، وهو ما لا يُشار إليه إلّا على بعض الإعلام المناهض للسياسات الأميركية، الذي شكّل مصدرًا للمعلومات حول هويّة الضحايا ولا سيّما النساء والمسيحيّين الذين يُعتّم عليهم لمحاولة إظهار أنّ «شبّانًا علويّين» فقط يُقتلون لأنّهم من «فلول النظام».
لعلّ أكبر مثال على التجاهل الآنف ذكره، وأكثره إثارةً للاشمئزاز لكثير من السوريّين والعرب افتراضيًا، قناة «الجزيرة» القطرية، المعروفة بالتحريض على النظام السابق منذ اندلاع الاحتجاجات العام 2011، وصولًا إلى اعتماد كلّ أنواع التضليل والتسويق للحركات التكفيرية، وهو ما ازدادت وتيرته بعد سيطرة «هيئة تحرير الشام» على الحكم في البلاد.
لكنّ القناة كانت غالبًا ما تنقل أخبار التجاوزات عن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» الذي كان بعض الإعلام يصفه بـ«المعارض» تأكيدًا على عدم ارتباطه بالنظام السابق، فيما تجاهلت اليوم تمامًا ما يصدر عنه، بما أنّه يدين «هيئة تحرير الشام». بل إنّها قلبت السردية رأسًا على عقب، فباتت: «فلول النظام البائد برتكبون إبادة بحقّ عناصر أمن الحكم الجديد»!
كان مدير «المرصد» رامي عبد الرحمن وصف الارتكابات في الساحل السوري بأنّها «جريمة تطهير عرقي وإبادة جماعية وجريمة حرب». وقال ذلك في مقابلة على قناة «الجديد» اللبنانية التي لطالما قيل إنّها فرع لبناني لـ«الجزيرة»، نظرًا إلى اعتمادها استراتيجية مماثلة بخصوص الاحتجاجات في سوريا قبل عقد، ولو بطريقة أقلّ نفورًا. لكنّها تتعاطى مع المجازر اليوم بشكل مختلف، وتدين الحكم الجديد وارتكابات الجماعات المسلّحة، مع أنّها سوّقت له واحتفت به إبّان سقوط النظام السابق، ولا زالت تنقل سرديّته بين الحين والآخر، وخصوصًا في تبرير ما يقوم به بالهجوم الاستباقي.
لا يقتصر الأمر على الإعلام القطري (والتركي)، إذ إنّ الإعلام السعودي يتولّى التسويق للحكم الجديد أيضًا، في انعكاس لسياسة حكومة بلاده التي تحاول حصر أضرار توسّع النفوذ التركي-القطري في سوريا بعدما آلت الأمور فيها إلى غير ما كانت تراهن عليه المملكة.
هكذا، عاد هذا الإعلام إلى ما قبل تطبيع العلاقات السعودية مع النظام السابق، فاعتمد سردية «فلول النظام» حتّى في إشارة إلى مَن لم يكن لهم علاقة بأيّ نظام، وجلّهم من النساء والأطفال الذين لم يكونوا قد وُلدوا بعد عندما اندلعت الحرب! أكثر من ذلك، نشرت «العربية» على موقعها مقالًا أزالته لاحقًا تحت عنوان «الإعلام الإيراني يصف فلول الأسد بـ«المقاومة» والأمن السوري بـ«عناصر الجولاني»»، متجاهلةً تمامًا أنّها كانت نفسها تصف الجيش السوري في عهد النظام السابق بـ«ميليشيات الأسد»، فيما «تلطّف» أسماء الجماعات المسلّحة بعبارات مثل «المعارضة» و«الثوّار». كذلك، تجاهلت أنّ «مقاومة» أبناء الساحل ضدّ إبادتهم لا تعني بالضرورة أنّهم من «فلول النظام»، تمامًا كما تنقل هي أنّ «الجماعات غير المنضبطة» تحت مظلّة «هيئة تحرير الشام» ليست بالضرورة موجّهةً منها، فلماذا تميّز القناة في حالة دون أخرى؟
في الإعلام الأوروبي، كان الأمر مختلفًا بعض الشيء، فلم يتوان عن مهاجمة الحكم الجديد، بما في ذلك وسائل إعلام تابعة للحكومات مثل BBC البريطانية وDW الألمانية ومختلف القنوات الفرنسية. لكن يمكن الإشارة إلى خبث في الموضوع، إذ إنّ هذه الوسائل هي ذاتها التي حرّضت لسنوات على سوريا وأجّجت الانقسام فيها ودفعت نحو التقسيم والاستعمار فيها، وهي ذاتها التي تولّت تحويل صورة «أبو محمّد الجولاني» إلى «أحمد الشرع»، فيما تنفض يدها اليوم ممّا ارتكبته. كما يمكن الإشارة إلى أنّ سرديّتها تتوافق كالعادة مع كيان الاحتلال الاسرائيلي، الذي ادّعى مسؤولوه أنّهم يكترثون للأقليّات ولا سيّما العلويّين وهم مستعدّون للدفاع عنهم.
انعكست لغة الإعلام الأوروبي لبنانيًّا، بحيث نقل الكثير من الإعلام سردية «فلول النظام»، ولا سيّما ذاك المموّل أوروبيًّا وقطريًّا، مثل «درج» و«ميغافون» و«المدن» وغيرها. على ضفّة LBCI التي كانت تركّز في المدّة الماضية على التوغّل الإسرائيلي في سوريا كما في لبنان، اعتمدت القناة منذ أيّام لهجة ظاهرها «حيادي»، لكنّ باطنها يتساوق مع السردية الآنفة، فبدا كأنّها تنقل أنّ هناك «عناصر غير منضبطة» تهدّد الاستقرار في الساحل السوري فيما «قوّات الأمن» تحاول استعادته، وهو ما تقوله الحكومة السورية أيضًا. لكن بشكل عام، ينصبّ تركيز القنوات اللبنانية، على اختلافها، على الخروقات الإسرائيلية ولا سيّما في الجنوب اللبناني، فيما عادت mtv في الآونة الأخيرة إلى خطاب التهويل بالحرب كما كانت تفعل إبّان التصعيد الأخير في أيلول (سبتمبر) الماضي 2024.