اوراق خاصة

الجبهة الخفية.. الحرب النفسية في ميزان الشهيد الأقدس

post-img

فادي الحاج حسن / كاتب وباحث لبناني

خاص موقع "أوراق"

الحرب النفسية، وهي تكتيك قديم قدم الصراع الإنساني ذاته، تطورت في العصر الحديث لتصبح أداة متقدمة في صراعات الدول. في خطابٍ ألقاه الشهيد الأسمى الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله، في ليالي عاشوراء العام 2009، أوضح أن الولايات المتحدة و"إسرائيل" تقوم بشن حملات نفسية مستمرة لزعزعة استقرار الأمم، مُسلطًا الضوء على تكتيكات مثل بث الخوف وتآكل الهوية الثقافية وتوظيف الإعلام. ومع أن سماحته انطلق من خطاب المقاومة، فإن تحليلًا لاستراتيجيات الولايات المتحدة، كما وثقتها الصحف الأمريكية، يكشف تداخلات معقدة بين العقيدة العسكرية وعمليات التلاعب بالمعلومات وإدارة التصورات العالمية.

وصف سماحته الحرب النفسية بأنها ممارسة ضاربة في التاريخ، وأكد أن جوهر الحرب النفسية لم يتغير عبر التاريخ، على الرغم تطور أدواتها حيث قال سماحته: ""كان الإنسان يلجأ إلى أساليب الحرب النفسية بفطرته، وعلى سبيل المثال دق الطبول لإرهاب الجيش الآخر... وقد تطورت أساليب الحرب النفسية شكلًا ومضمونًا". وتابع مستشهدًا بأمثلة من التاريخ الإسلامي، "مثل تلاعب الوالي الأموي عبيد الله بن زياد بقبائل العراق في القرن السابع". أما اليوم، فقد أصبحت هذه الحرب تعتمد على أدوات متطورة مثل: التكتلات الإعلامية ومراكز الأبحاث والمنصات الرقمية. وقد سلطت صحف أمريكية مثل "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" الضوء على استخدام البنتاغون لـ"عمليات المعلومات" (IO). ووحدات الحرب النفسية (PsyOps). فعلى سبيل المثال، كشف تحقيق لـ"نيويورك تايمز"، في العام 2020، عن توظيف "القيادة السيبرانية الأمريكية" لشخصيات افتراضية لمحاربة الدعاية المتطرفة في ممارسة تُمزج بين الدفاع والتأثير النفسي.

تكتيكات بث الخوف والتشكيك 

1. تضخيم التهديدات واستعراض القوة العسكرية.

أشار سماحة الشهيد السيد نصر الله إلى التهديدات الأمريكية والإسرائيلية المتكررة بالغزو وعروض القوة العسكرية لترهيب الخصوم. وذكر أن الهدف الأول هو: "إرهابنا وملء قلوبنا بالرعب"، من خلال: "التهديد الدائم بالعدوان... كل يوم يهددون بضربنا وضرب بنانا التحتية... وعندما تشكلت الحكومة وكنّا من ضمنها، قالوا: إنّ كل لبنان في دائرة التهديد". إذ خلال غزو العراق، في العام 2003، مثّلت حملة "الصدمة والترهيب" التي بثتها الشاشات العالمية نموذجًا لهذه الاستراتيجية. وكما ذكرت "واشنطن بوست"، في العام 2003، كان الهدف من القصف "تحطيم إرادة العدو" بقدر ما كان تدمير البنية التحتية. وبالمثل، يُضخم الإعلام الأمريكي مناورات عسكرية مشتركة مع "إسرائيل"، مثل تدريبات "جونيبر أوك" الثنائية لترسيخ تصورات "المناعة" من الهزيمة.

2. الإعلام ساحة للمعركة

وظفت الولايات المتحدة الإعلام لصياغة السرديات؛ فمراسلوها المُتضامنون مع القوات في العراق وأفغانستان، على الرغم من تقديمهم رمزًا للشفافية، وُجهت إليهم انتقادات، كما في تحليل لـ"لوس أنجلوس تايمز" في العام 2004، لخلقهم "علاقة تكافلية" مع الجيش تُنمّط رواية الحرب. في المقابل، واجهت منصات مثل "صوت أمريكا" و"راديو أوروبا الحرة" اتهاماتٍ بدورها، مثل أذرع دعائية خلال الحرب الباردة وما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001.

كما أضاف سماحة السيد نصر الله: "هم يتحدثون عن سلاحهم البري والجوي وتشكيلاتهم بهدف الإخافة... في بداية حرب تموز أو غزة، تستغربون كيف يسمحون لوسائل إعلامهم أن تصعد إلى متن بارجة حربية... هذا يخدم الهدف".

3. العقوبات الاقتصادية والعقاب الجماعي

ليست العقوبات الاقتصادية مجرد أداة ضغط سياسي "غير عنيفة"؛ بل هي شكلٌ حديث من "العقاب الجماعي" المُمنهج، يعكس استمرارية المنطق الاستعماري القائم على إخضاع الشعوب عبر تجويعها وإضعافها نفسيًّا وماديًّا. إذ أدان سماحة السيد حسن نصر الله استخدام الحرب النفسية ضد الأمم، وعدّ العقوبات ضدها امتدادًا لـ النظرية العنصرية التي تُسوّغ الهيمنة على "الآخر" المختلف عرقيًّا أو ثقافيًّا، تحت ذرائع أخلاقية زائفة.

  • العقوبات أداة عنصرية.. من الاستعمار إلى العولمة 

تاريخيًّا، استخدمت القوى الاستعمارية سياسات اقتصادية قاسية لتركيع الشعوب، مثل تجويع الهند خلال الحكم البريطاني، أو حصار الجزائر في القرن التاسع عشر. اليوم، تظهر العقوبات الأمريكية على دول مثل إيران وفنزويلا وكوبا بالنمط ذاته، لكن بغطاء "شرعي" دولي. هذه الدول، والتي تُوصم غالبًا بـ "المارقة", ليست عشوائية، بل تقع ضمن دائرة الشعوب غير البيضاء أو المنتمية إلى الجنوب العالمي، ما يعكس ترسيخًا لـ التقسيم العرقي - الجيوسياسي.  

وفقًا للمفكر فرانتز فانون، وهو الطبيب النفسانيّ والفيلسوف الاجتماعي من جزر المارتنيك، يقول في كتابه "معذبو الأرض": "الاستعمار لا يكتفي بسرقة الثروات؛ بل يختزل الإنسان المُستعمَر إلى كائن ضعيف، يُسوّغ استغلاله بعرقيته أو ثقافته".

  • العقوبات والعنف البنيوي.. إفقارٌ مُتعمَّد 

تُسبب العقوبات أزمات إنسانية مُركَّبة، مثل نقص الأدوية وانهيار العملة وانتشار المجاعات، والتي تُضعف الشعوب وتجبرها على القبول بشروط الهيمنة. هذه الممارسات تُجسِّد ما يُسميه علم الاجتماع "العنف البنيوي" – أي العنف غير المباشر الناتج عن أنظمة ظالمة – لكنها هنا تُضاعَف ببُعدٍ عرقي، إذ تُطبَّق بشكلٍ انتقائي على دولٍ تُعدّ "مُختلِفة" حضاريًّا.

ج. التسويغ العنصري.. صناعة "العدو المُختلف"

تعتمد الولايات المتحدة على صناعة سردية عنصرية لتسويغ العقوبات، تُصوِّر الشعوب المُستهدفة بأنها:

- "همجية"؛ كما في خطاب بوش عن "محور الشر".

- "غير قادرة على إدارة ثرواتها"، مثل إيران الغنية بالنفط.

- المقاومة: تفكيك الآلية العنصرية

رفض سماحة السيد نصر الله منطق الضعف المُفروض، مؤكدًا أن:"لدينا العدد والكم والنوع والعقول والنوابغ... هم يريدوننا أن ننسى ذلك". هذا الرفض يتوافق مع حركات التحرر من العنصرية البنيوية، مثل مقاطعة البضائع الأمريكية (BDS) لدعم فلسطين، أو تحالفات دول الجنوب لخلق أنظمة مالية بديلة، مثل الاتفاقيات الروسية - الصينية لتفادي الدولار.

في الخلاصة؛ تعدّ هذه العقوبات استعمارًا بأدوات القرن الواحد والعشرين، فالعقوبات الاقتصادية ليست "حربًا نفسية" فحسب، بل هي جريمة إنسانية مُمنهجة، تُكرِّس التفوق العرقي الغربي تحت شعارات زائفة؛ فالشعوب التي تُدرك جذور العنف الاقتصادي - العرقي، وتعيد بناء هويتها على أساس التضامن والاكتفاء الذاتي قادرة على تحويل العقوبات من أداة قمع إلى دافعٍ للتحرر.

التآكل الثقافي والفكري

تقوم الولايات المتحدة بتفكيك الثقة الثقافية عبر تضخيم الانقسامات المذهبية وتشويه حركات المقاومة. إذ إنّ تركيز الإعلام الأمريكي - كما في مقال لـ"ذا أتلانتيك"، في العام 2015 - على إطار "الطائفية" في الحروب (الصراع السوري) يُعيد إنتاج سردية التفتيت. في المقابل، دعم واشنطن لجماعات معارضة، مثل القوات الكردية في سوريا أو قادة المعارضة الفنزويلية، نُقد في منصات مثل "ذا إنترسبت" كمحاولات لسحب الشرعية عن الأنظمة المعادية.

في هذا السياق؛ أكد خطاب سماحة السيد نصر الله أن أحد اهداف الحرب النفسية هو: "إقناعنا بأننا شعوب ضعيفة وقاصرة"، عبر: "إغفال كل نقاط القوة عندنا... لدينا العدد والكم والنوع والعقول والنوابغ، لكنهم يريدوننا أن ننسى ذلك". يسوّغ المسؤولون الأمريكيون، كما ورد في "وول ستريت جورنال" و"بوليتيكو"، هذه التكتيكات أنها ضرورة لأمنهم القومي. إذ إنّ مبادرات الأمن السيبراني والدعاية لمكافحة الإرهاب تُصوَّر أنها درع ضد التضليل الإعلامي للأنظمة الاستبدادية. لكنّ مُبلغين مثل إدوارد سنودن ومحللين مثل جوزيف ناي من جامعة هارفارد حذروا من الانزلاقات الأخلاقية؛ ففي مقال لـ"فورين أفيرز" (2021)، نبّه ناي إلى أن الاعتماد المفرط على "القوة الناعمة" قد يدفع الجماهير العالمية إلى النفور.

لكن تتقاطع استراتيجية الولايات المتحدة مع مفهوم "جوزيف ناي" عن "القوة الناعمة"، والذي يرى أن الهيمنة تُحقَّق عبر الجذب الثقافي. لكن السيد نصر الله يرى أن هذه "القوة" تُوظَّف لتفتيت الهويات؛ بقوله : "يركزون على الاختلافات العرقية والدينية... ويخترعون خلافات... عملوا وكتبوا كثيرًا عن الخلافات الإيرانية السورية، لكن عادوا واعترفوا بوجود هذه العلاقة".

على الرغم من تصوير الإعلام الأمريكي للحرب النفسية دفاعًا مشروعًا، فإن تأثيرها بتغذية العداء للولايات المتحدة وتأجيج الصراعات لا يُنكر. وكما أشارت "ذا غارديان"، في العام 2022، بأنّ "الحرب المعلوماتية الباردة" بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية تتصاعد، ويدفع المدنيون ثمنها. أما إن كانت هذه التكتيكات ستجني "الخيبة والفشل"، كما تنبأ سماحة السيد نصر الله بقوله: "إنشاء الله نحن دخلنا في مرحلة مبانينا وقواعدنا ومواقفنا وحيث نستمد القوة؛ في مرحلة لن يكون لأصحاب المشروع الآخر أيّا تكن الحروب التي يشنونها عسكرية أو أمنية أو سياسية أو اقتصادية أو نفسية سوى الفشل وخيبات الأمل، كونوا مطمئنين لكن المهم أن يكون لدينا إحاطة بالموضوع إن شاء الله"، وهذا مرهون بشرعيتها المُدرَكة، في معركة لا تُخاض في الميدان، بل في العقول.

إن التشكيك في الخيارات والقيادات هو سلاح التفكيك الداخلي، وقد ذكر سماحة الشهيد الأقدس السيد نصر الله في خطابه أن الهدف هو "إيجاد الشك والتردد في أفكارنا وخياراتنا وقياداتنا". ويضيف سماحته، "المستوى الأخير هو إيجاد تشكيك في الإطارات والقيادات والكادرات؛ يقولون: إن كل القيادات التي تؤمنون بها هي غير صادقة وهي فاسدة وتبحث عن شهواتها. والمهم أن يبدأ النقاش في أطر وقيادات المقاومة، وأن تصبح في دائرة الإتهام. ومن جملة الأساليب أيضا نشر الأكاذيب بالقول إنه يوجد صراع أجنحة وتيارات ويكتبون عن ذلك. وفي السنتين الماضيتين جماعة الإعلام عزلوني مئة مرة وأعادوني مئة مرة... عامة الناس عندما يقرأون ذلك يتأثرون. يبثون مجموعة أكاذيب لإبعاد الناس عن قيادات المقاومة بحجة أن الناس مع المقاومة ولكن لا يوجد لها قيادة..هنا لا أقول إننا الأصدق والأفضل ولكن أقول نحن من أهم الأحزاب المنسجمة والمتوحدة والمتآخية والمتماسكة، ومن الأكثر انسجاما ووحدة وتماسكا وطهارة ونظافة وصدقا ونقاء".

بين خطاب سماحة السيد حسن نصر الله وبين مفهومي إدوارد سنودن وجوزيف ناي

  1. إدوارد سنودن كشف الستار عن آليات المراقبة والحرب السيبرانية 

إدوارد سنودن، وهو المُبلِّغ الشهير عن برامج المراقبة الجماعية لوكالة الأمن القومي الأمريكية (NSA)، كشف في العام 2013 عن شبكة عالمية من التجسس الإلكتروني، تُنفذها الولايات المتحدة تحت ذرائع "مكافحة الإرهاب". تُظهر تسريباته أنَّ الحرب النفسية الحديثة لم تعد تقتصر على التهديدات العسكرية المباشرة، بل تشمل تكنولوجيا المراقبة والتلاعب بالبيانات لزرع الخوف أو تشويه السمعة أو توجيه الرأي العام.

  2. جوزيف ناي: "القوة الناعمة" بين الجذب والإكراه 

جوزيف ناي، وهو الأكاديمي الأمريكي ومهندس مفهوم "القوة الناعمة" يرى أنَّ الهيمنة لا تتحقق بالعسكر فقط، بل عبر الجذب الثقافي وترويج القيم الديمقراطية. لكن سماحة السيد نصر الله يرى في هذه "القوة" وجهًا آخر للحرب النفسية عندما تُستخدم لتفتيت الهويات وإقناع الشعوب بتبعيتها الحضارية. وبحسب ناي، تُحقِّق أمريكا نفوذها عبر هوليوود والجامعات وشركات التكنولوجيا. لكنَّ سماحة السيد نصر الله يرى أنَّ هذه الأدوات تُوظَّف لـ تغريب المجتمعات، كما ذكر في حديثه عن "محاولة إقناعنا بأننا شعوب قاصرة"، إذ تُظهر الحملات الإعلامية الغربية مثلًا المقاومة كجماعات "متخلفة"، بينما تُصوِّر الخضوع للغرب سبيلًا وحيدًا للتقدم.

في خطابه، تحدث سماحة السيد نصر الله عن استخدام أمريكا "وسائل الاتصال الحديثة" و"الإنترنت" أدوات في الحرب النفسية. وقد ذكر سماحته في الخطاب أن: "في العصر الحديث تستخدم وسائل ضخمة جدا ومتنوعة جدا، ويأتي في مقدمتها كل ما يتصل بوسائل الإعلام ووسائل الاتصال الحديث من صحف ومجلات وإنترنت وتلفزيونات ومراكز دراسات ومؤلفين ومحققين... أميركا تمارس أعلى وسائل الحرب النفسية على أمتنا".

كما أضاف سماحته: "الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة مشروع الهيمنة على خيراتنا، وهي المتولية شن الحرب بكل الوسائل على المنطقة تمارس أبشع وأعلى وسائل الحرب النفسية ضد جيوشنا والمقاومة والقيادات وكل ما يتصل بهذه الأمة بصلة. وكذلك العدو الصهيوني الذي يعدّ ثكنة للمشروع الأمريكي، وهي تشن حربًا متواصلة على مدى الساعات والدقائق بشكل دائم".

هذا؛ وتُعد أنشطة الـ "NSA" التي كشفها سنودن تجسيدًا عمليًّا لهذا التحذير؛ فجمع البيانات الشخصية واختراق الخوادم الإلكترونية، كما في برنامج "PRISM" يُضعف الثقة في الخصوصية، ويُشعر الأفراد بالضعف أمام قوة لا تُرى، ما يُسهِّل السيطرة النفسية على الشعوب.

كما ينتقد سماحته فلسفة "الضعف" التي تُروج لها أمريكا، مثل شعار "قوة لبنان في ضعفه"، بينما يرى ناي أنَّ "القوة الناعمة" تعتمد على الشرعية الطوعية. لكنَّ الواقع، كما تكشف تقارير "ذا إنترسبت"، يظهر أنَّ واشنطن تجمع بين "الناعم" و"الخشن": إذ بينما تبيع ثقافتها، تفرض عقوبات تُجوع الشعوب، مثلًا إيران، وتدعم أنظمة استبدادية، مصر مثالًا، لضمان الولاء.

هناك شبه اتفاق على أنَّ الصراع الحديث تديره أدوات غير تقليدية، لكنهما تختلفان في التقويم: فبحسب ناي: الحرب النفسية ضرورة استراتيجية في عالم "ما بعد الحداثة"، حيث المعلومات سلاح. لكنّه يحذّر من تحوُّلها إلى "قوة ذكية" تُمزج بين الإغراء والإكراه، ما يُفقدها شرعيتها، والغرب يُخفي كرهه خلف شعارات "القيم"، وهو ما تؤكده فضائح سنودن؛ فمراقبة الشعوب وتضخيم نقاط ضعفها هو استمرار للحرب الاستعمارية بأساليب حديثة.

عندما يُحذِّر سماحته من "التشكيك بثقافتنا"، فهو يستهدف الآلية التي تعمل بها "القوة الناعمة"، ووفقًا لـــ"ناي" برامج التثقيف الغربية ومراكز الدراسات، مثل "مؤسسة راند"، تُروِّج لصورة "الشرق الأوسط المتخلف"، بينما تُهمِّش خطابات المقاومة، مثل حزب الله، ما يخلق بيئة خصبة لـ الاستسلام النفسي قبل العسكري.

الصراع على العقل قبل الأرض

خطاب سماحة السيد نصر الله وسرديات سنودن وناي، وإن اختلفت زواياها، تُجسِّد معًا تحولًا جوهريًّا في طبيعة الصراع؛ فالحرب لم تعد تُخاض بالدبابات فقط، بل بالبكسلات، حيث وحدات الصورة الرقمية والبيانات والسرديات الثقافية.

 -  كيف تُحوِّل أمريكا التكنولوجيا إلى سلاح مراقبة.

 -  كيف تحوِّل أمريكا الثقافة إلى سلاح جذب.

 -  فضح كيف تحوِّل أمريكا كليهما إلى سلاح تدمير نفسي.

هذا ما يُظهر أنَّ "الهُوية" و"الخصوصية" هما جبهتان رئيستان في مواجهة الهيمنة، وهو ما يُلخِّصه سماحة السيد نصر الله بقوله: "أميركا لن تجني من حربها النفسية علينا سوى الخيبة والفشل... لأنَّ شعوبنا أدركت أنَّ المعركة الحقيقية هي معركة الإرادات... ونحن دخلنا في مرحلة مبانينا وقواعدنا ومواقفنا... الحرب النفسية تحسم المعركة، والمهم أن يكون لدينا إحاطة بالموضوع".

تُظهر التحليلات والوقائع المذكورة في المقال والمستندة إلى كلمة سماحة السيد حسن نصرالله في الليلة الثالثة من ليالي عاشوراء، في العام 2009، أن الولايات المتحدة الأمريكية تتحمّل مسؤولية رئيسة في استخدام الحرب النفسية أداةً استراتيجية لتحقيق الهيمنة العالمية، عبر توظيف أدوات متطورة تُمزج بين القوة العسكرية "الخشنة" والتلاعب المعلوماتي "الناعم". إذ من خلال تضخيم التهديدات واستعراض القوة وتوظيف الإعلام لصياغة سرديات مُضللة، وإدارة العقوبات الاقتصادية شكلًا من العقاب الجماعي، تسعى واشنطن إلى زعزعة استقرار الدول وتفكيك الهويات الثقافية وإضعاف الثقة بالأنظمة المقاومة.

لا تقتصر هذه الممارسات على الجانب العسكري، بل تمتد إلى اختراق المجال الثقافي والفكري عبر مراكز الأبحاث والمنصات الرقمية، بهدف تشويه حركات المقاومة وتضخيم الانقسامات الداخلية، كما يُبيّن خطاب سماحة السيد نصر الله  منذ عام 2009، وأيضًا تحليلات إدوارد سنودن التي كشفت آليات المراقبة الجماعية. هذه الاستراتيجيات، وإن جرى تسويغها أحيانًا تحت شعارات "مكافحة الإرهاب" أو "نشر الديمقراطية"، تُنتج آثارًا مدمرة على الشعوب، من خلال خلق أزمات إنسانية وتغذية العداء، كما تعترف تقارير إعلامية أمريكية نفسها.

الأهم أن الحرب النفسية الأمريكية، على الرغم من ادعائها "الدفاع عن القيم"، تُفاقم عدم الاستقرار العالمي، وتُعمق الشعور بالنفور من السياسات الغربية، خاصة مع تناقضها الواضح بين خطاب "القوة الناعمة" في جذب ثقافي، وممارساتها القائمة على الإكراه الاقتصادي والسياسي. وتاليًا، المسؤولية الأخلاقية والسياسية للولايات المتحدة تكمن ليس فقط في استخدام هذه التكتيكات، بل أيضًا في العواقب الواسعة الناتجة عنها، مثل تآكل السيادة الوطنية لدول كثيرة، وانزياح الثقة في المؤسسات الدولية،وتصاعد الصراعات الهوياتية.

في النهاية، يؤكد المقال أن مواجهة هذه الحرب تتطلب وعيًا جماعيًّا بآلياتها، وتعزيز المناعة الثقافية والاعتماد على مقومات الهوية الذاتية، كما يرى الشهيد القدس السيد نصر الله؛ لأن المعركة الحقيقية اليوم هي معركة إراداتٍ تُخاض في العقول قبل الميادين.

المصادر:

كلمة سماحة السيد حسن نصرالله في الليلة الثالثة من ليالي عاشوراء في العام  2009

"نيويورك تايمز"

"واشنطن بوست"

"فورين بوليسي"

"ذا إنترسبت"

"فورين أفيرز"

 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد