أ.د.خديجة عبدالله شهاب/ كاتبة وأستاذة جامعية
خاص موقع "أوراق"
انتهت حرب الثلاثة والثلاثين يومًا... وضعت أوزارها. عاد الجنوبيون والمجاهدون والنّاس إلى بيوتهم مرفوعي الرأس مهللين للنصر. عادوا وهم يعرفون أنّ أبناءهم شهداء وبيوتهم مهدّمة، ولكنّهم عادوا صونًا للدماء الطاهرة التي روتها، وحفظًا للكرامة. فالإنسان من غير وطن لا قيمة له، وهو عنده الرّوح التي يجهد في البقاء فيه معززًا مكرّمًا. وعاد العدو مهزومًا مطأطئًا إلى خلف الحدود صاغرًا لشروط المقاومين والمجاهدين.
تميّزت تلك الحرب بطغيان العاطفة والوفاء بين القائد والمجاهدين والنّاس عشّاق الأرض والحياة. فقائد المقاومة وجّه رسالة إلى المقاومين المرابطين على الثغور ملؤها الحب والعاطفة... وقال:" أنتم الأمل بعد الله بالنصر"...
جاوبه المقاومون أنت القائد والملهم والمفدّى" ونحن طوع بنانك"؛ في ما تراه في سبيل التّحرر من هذا العدو الغاشم الّذي لا يرعوي إلّا تحت التهديد ولا يعرف لغة غير السّلاح.
لم تكن مواقع التواصل في العام 2006 قد غزت بيئتنا؛ وكنّا نسمع أخبار الميدان من القائد؛ ويخرج علينا بين فينة وأُخرى على شاشات التلفزة، ليزف إلينا بشائر التقدّم والنصر. كان المجاهد يأمن على نفسه بين أهله وناسه ومجتمعه. فأهل الأرض هم رداءه الّذي يحتمي به، والبعض منهم قدّم لهم مفاتيح البيت، فلا هم ولا قيمة لها ما لم تكن في تصرّفهم وهم الّذين يقدّمون الأرواح.
لم تهدأ الجبهة طوال ثلاثة وثلاثين يومًا، خرج النّاس خلالها يخبرون عن بعض حكايا المستبسلين المدافعين، وقصّوا بعضًا من حكايا الأرض في علاقتها بالمجاهدين، وكيف كان " وادي الحجير" مقبرة لأكثر الدّبابات الصهيونيّة تفوقًا,
تقع قريتي على كتف "وادي الحجير" وكم شعرت بالعزّة حين أخبرني بمجرزته تلك.
وعاد" أحمد إلى عائلته، بعد مرور ما يزيد على عشرين يومًا من انتهاء الحرب، وقد ظنّت عائلته أنّه في عِداد الشّهداء، قالت زهراء ابنته :"حقيقة لم أصدّق الأمر حتى لامست وجهه بيدي، وشممت عطر تراب الأرض يعبق في ثيابه" ما أجملها من لحظة أأبكي على عودته بالسّلامة ، أم أبكي مواساة لصديقاتي اللواتي فقدن أمهاتهنّ، أو أولادهن أو أزواجهن. لحظات اختلط عليّ فيها الأمل بالفرح، والحزن بالأمل فيمن تبقى من الأسرة التي وعد أنّه سيسير على هذا الدرب بكل قوّة وعزيمة.وسأروي قصة تلك البزّة وذلك الحذاء اللذين حفظا رفاة أحد الشهداء، وقد صمد لمدة شهر في العراء إلى أن تحلل جثمانه، لم يعد ما يدل عليه إلا بعض حاجياته، وبزته تلك.
حكايا كثيرة أُخبرت، وحكايا أخرى تنتظر من يكشف النّقاب عنها لتؤرخ لهذا الحرب، فتتعلّم الأجيال أهمّيّة المحافظة على الأرض، ولتعرف الأثمان التي تُدفع في سبيل المحافظة عليها.
تحمّس "عبد الحسن" أكبر المعمّرين في قريتي؛ وأخبرني كيف أنّه كان الناجي الوحيد من مجزرة "حولا" في العام 1948م. كانوا أكثر من أربعين رجلًا ما بين مزارع وفلّاح وعامل، ذهبوا للتجارة ، فاقتادهم الصهانيّة إلى أحد البيوت المهجورة، وكبّلوا أيدهم ونفّذوا بهم حكم الإعدام رميًّا بالرّصاص.
تابع عبد الحسين" حمدًا لله أن الرّصاصات لم تصبني" وحتّى أُسلّم نفسي من الموت قطعت أنفاسي وتظاهرت بالموت.عاد الصهاينة بعد دقائق ليتأكدوا من أن الجميع قد ماتوا، بدأوا يركلون بعض الجثث بأرجلهم، ويضربون بعضها بأعقاب البنادق. الحمد لله فكأن الله أعمى عيونهم عني.
لم يسمح الصهاينة بسحب الجثث، وبقيت في تلك الخربة المهجورة لعشرة أيام، أمّا الجثامين الأخرى بقيت ما يزيد على الأسبوعين، كنت أشرب فيها ماء الزّيتون الذي كان موجودًا في خابية قديمة، إلى أن مرّ أحد سكان القرية بعد منتصف ليل أحد الأيام، سمع صوتي المختنق، فحملني على ظهر دابته وانقذني من الموت المحتّم.
نعم كانت أيامًا قاسية، كتب الله لي فيها النجاة لأخبر عن ظلم العدو وتجبّره وجبروته. وهاأنذا أخبركم بها لتنقلوها لأحفادي من المجاهدين الذين حملوا هذا النّهج وهذا الخط على أكتافهم.
لم ينس الصهيوني خيبة حرب الثلاثة والثلاثين يومًا وقرر منذ تلك اللحظة الاستعداد للانتقام، إذ لم يسبق لوادٍ أن دحره بهذا الذّل، ولم يسبق لقرية كالخيام( أرض العنفوان)، أو عيتا( أمّ العزّ)، ومارون الراس، ويارون (سيدة الشّهداء) وميس الجبل، وحولا وبليدا أن قاومته كما فعلت هذه القرى وغيرها من القرى الجنوبيّة الأخرى، وكان النّصر الثاني، " إذ أخبرنا أنّه ولّى زمن الهزائم، ووعدنا بالنصر دائمًا".
كبر الحساب بقدر قيمة الخسائر البشريّة واللوجستية، وبقدر انكسار صورته التي أرّخ العالم فيها مكانته( الجيش الّذي لا يقهر). في أرض عامل قُهِر وذّل وتراجع عن كلّ أهدافه التي لم تتحقق، ودان لأهل الأرض بالطّاعة والتّسليم.
تعلمت "غزّا" من هذا النّصر دروسًا في هزيمة من لم يُهزم قبًلا، وتجهّزت لوثبة جديدة تحجز لها مكانة بين الشّعوب المنتصرة والمعتزّة، أراد مقاوموها أن يكسروا معادلة القهر والقوة بمعادلة الصمود والتحدّي..فجاء السّابع من تشرين الأول من العام 2024، وانطلقت شرارة المقاومة الأولى من هناك ولأنّ المقاومة اللبنانية أخذت على عاتقها تحرير فلسطين من رجس الاحتلال، ولأسباب داخليّة لم تدخل الحرب مباشرة، بل دخلتها بحرب إسناد ودعم، وكانت تقصف المواقع العسكريّة واللوجستيّة، ومقارّ القيادات العسكريّة.
مرّت ثمانية عشر عامًا على الحرب الأولى تطورت فيها الأمور كثيًرا. دخلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى حياتنا دفعة واحدة وأصبح جواسيسنا بين أيدينا. ودخل الذكاء الاصطناعي المعركة من باب الصوت والصورة، والمعلومات المقدَّمة له من بعض الجواسيس البشر ضعفاء النّفوس، ودخل سلاح المسيّرات للمرة الأولى، فكانت عمدة العدو الأولى في اعتدائه على الكثير من المارّة والآمنين من المواطنين العّزل الّذين لا حول لهم ولا قوة، وكلّ جريمتهم أنّهم من الدّاعمين للمقاومة في حربها عليهم. فعلى الطريق المؤدي إلى بلدة الشّهابيّة، قصف سيارة لنقل البضاعة والخضار، فاستشهد صاحبها وولديه اللذين كانا يرافقانه. وفي طريق فرعي آخر في هذه البلدة قصفت سيارة أحد الشيوخ فلم يبقَ ومنه عائلته أي أثر، الحرب طاحنة والعدو مستشرس، ليعيد بعض ماء وجهه الّذي هُدر ويهدر كل يوم . ولكن!!!!
تطورت صناعة الأسلحة، فطوّرت المقاومة من قدراتها العسكرية، وكانت جاهزة لكلّ الخطط التي وضعها العدو لينتصر هذه المرّة، حتى أنّه حين قرّر الدّخول في هجوم بري على جنوب لبنان، والقرى المحاذية للشريط الحدودي لفلسطين المحتلة حشد سبعين ألف جندي، واستمرت المعارك لما يزيد على الثلاثة أسابيع، ولم يستطع أن يتقدّم قيد أنملة.
بدأت مرحلة عضّ الأصابع والاتهامات المتبادلة بين الجنود الصّهاينة وقادتهم، فقد عادوا للغرق في المستنقع الجنوبي ثانية ، ولم يحققوا أيًّا من أهدافهم ومنها القضاء على المقاومة.
زعم العدو حينها أنّه بدأ يضع يده على بداية الانهيار، وقد ظنَّ أن المقاومين سيتركون السّاحات لهم فارغة.
لم يأت حساب الحقل على حساب البيدر" وظلّت المقاومة صامدة في مواقعها، وعادت لترمم ما أصابها من انتكاسات فالعدو شرس لا يرحم والهزيمة ممنوعة والنصر محتوم.
في هذه الأثناء كانت مدفعيته تقصف القرى الآمنة وتروع أهلها، وتوسّع رقعة الاشتباكات حتى وصلت إلى قرى بعلبك، وبعض قرى الجبل والشمال. اغتالت قادة الصّف الأول، وقائد المقاومة في الأيام الأولى للحرب، وما تزال غزّة صامدة تدافع بشراسة عن الأهل والأرض. لم يبق منها شيئَا فدمّر فيها العدو كلّ ذي حياة، أعادها صحراء خاوية إلّا من الثكالى والأيتام والأرامل والأطفال المشرّدين. خمسة عشر شهرًا كانت كفيلة أن تُجبر العدو على التفكير في الطّريقة التي يوقف فيها هذه الحرب ، فيستعيد أسراه ويرمم جيشه الذّي مني بهزيمة كبرى، لم تكن لتخطر في بالهم.. وانتصرت غزة، وها هي صفقة تبادل الأسرى قائمة على قدم وساق وصيغت اتفاقيّة وقف إطلاق النار ، وعاد العدو ليجرّ أذيال الخيبة.
في غزّة أيضًا الكثير من الحكايا والقصص تنتظر الإفراج عنها، لتخبر عن الصّمود الأسطوري لها وقد حوصرت، ومُنع منها الماء والطبابة، وقُصِفت المستشفيات ودور الحضانة ومراكز الإيواء وخيم الهاربين من جحيم الحرب. قطعًا سأخبر أحفادي يومًا أن هناك عائلات بأكملها أُبيدت، فذاك الصحافي الّذي غادر عائلته منذ مدّة طويلة لتغطية أخبار الحرب ، وصله نبأ صاروخ اغتالها كلّها دفعة واحدة.
سأخبرهم عن الطفل الذي لجأ إلى حضن والده ليحتمي به من نيران المدفعيّة، فلحقتهما صواريخ الطائرات وأردتهما شهيدين، وسأحدّثهم عن ذلك الطفل الذي خرج ليحضر بعض ما تيسر من الطعام لأخوته الجائعين بعدما فقدوا معيليهما، وحين عاد كانت القذيفة قد هدّمت منزلهم واستشهدوا تحت ركامه، وبقي في هذا العالم المتوحش وحيدًا.
هدأت المعركة، ولم تتوقف الحرب فكل الطرفين يستعد لجولة وربما لجولات أخرى من المعارك والحروب، فهل سيتعلم العدو الإسرائيلي من أخطائه ويأخذ العِبر. هل ستفتح شعوب العالم المحتلّة عيونها على حقبة جديدة من النصر، فتدخل معارك التحرر والتحرير ، فتنال شرف العيش بكرامة وأمان بعيدًا من المستبد والمستعمر؟!