منذ بدء حرب الإبادة على غزة، تكشّف حجم الهيمنة والنفوذ الذي تتمتّع به "إسرائيل" في المؤسسات الإعلامية والتكنولوجية الكبرى حول العالم.
قد تبدو بحيرة «ميتا» زرقاء نقيّة للعيّان، لكنّها تختزن في أعماقها رواسب ومجارير بنّية. بين الحين والآخر، ولا سيّما في العامَين الأخيرَين، تطفح إلى سطح هذه البحيرة رواسب تفضح تحيّز الشركة المالكة لواتساب وفايسبوك وإنستغرام لصالح الاحتلال الصهيوني وسرديّته، بينما تدّعي العفّة وتختبئ وراء زرقاويّتها.
لقد أبرزت تقارير سابقة تعاون «ميتا» مع جهات إسرائيلية للتدقيق في مضمون المنشورات وحذف تلك الناقدة للصهيونية أو المؤيّدة للفلسطينيّين، بالإضافة إلى حملات استغلّتها المؤسّسات الصهيونية لنشر سرديّتها على المنصّات التابعة للشركة ومحاولة غسل أدمغة الشباب كما المشرّعين الأميركيّين.
صهيونية من الرأس حتى أخمص القدمين
الجديد هو المفاجأة غير المفاجئة التي فجّرها الكاتب والمحلّل الأميركي المعروف باسم نيت بير على مدوّنته Do Not Panic، وأعاد نشرها موقع «ذا غرايزون» الاستقصائي، ومفادها أنّ أكثر من مئة جاسوس وجندي سابق في «جيش» الاحتلال الصهيوني يعملون في شركة «ميتا»، بمن فيهم رئيسة سياسة الذكاء الاصطناعي فيها التي خدمت في «جيش» الاحتلال بفضل برنامج حكومي إسرائيلي يسمح لغير حاملي الجنسية بالتطوّع.
لقد كان الكاتب ذاته قد نشر تحقيقًا منذ مدّة أبرز فيه أنّ عشرات الأعضاء السابقين ممّن خدموا في «الوحدة 8200» الاستخباراتية الصهيونية وعملوا على برامج ذكاء اصطناعي أسهمت في الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال في غزّة، انضمّوا إلى فرق الذكاء الاصطناعي في شركات تكنولوجيا مختلفة، بما فيها «ميتا» و«غوغل» و«أمازون» و«آبل» و«مايكروسوفت» و«أنڤيديا» وOpenAI.
أتمتة القتل الجماعي
من بين موظّفي «ميتا» الذين نُشرت أسماؤهم في التحقيق، مهندس بيانات يعمل في مكاتب الشركة في مدريد (اسمه Doron Vainrub). ويقول المهندس إنّه خلال قرابة السنوات الثلاث التي أمضاها في «الوحدة 8200»، طوّر «حلًا» للبيانات الضخمة و«اختصر عملية اتّخاذ قرار بشرية من أيّام عدّة إلى بضع ساعات»، وهو ما يتماشى مع نهج نظام «لاڤندر» للذكاء الاصطناعي الذي قام بأتمتة القتل الجماعي للفلسطينيّين (أي تشغيله الآلي).
كذلك، نشر التحقيق في حينه أسماء آخرين خدموا جميعهم في «الوحدة 8200» والآن يعملون في الذكاء الاصطناعي لصالح «ميتا»، وهم: ناداف بينيديك، وأورييل سينغر، وأوشري حليمي، وشيلي شينن، وأوري باتيش، وعفرات رافيد ومايا بيشلر سبيشر...
في التحقيق الأحدث، تنضمّ إلى اللائحة رئيسة سياسة الذكاء الاصطناعي في «ميتا» شيرا أندرسون، وهي محامية أميركية مختصّة في الحقوق الدولية، وكانت قد تطوعت في «جيش» الاحتلال سنة 2009 في إطار برنامج يتيح لليهود غير «الإسرائيليّين»، أي غير المؤهّلين للتجنيد العسكري، الانضمام إلى صفوفه.
احفظوا هذا الاسم
البرنامج المعروف باسم «غارين تسابار» (Garin Tzabar)، تورّط بفضله العديد من غير «الإسرائيليّين» في جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية بحقّ الفلسطينيّين، خصوصًا بعد تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023 ولكن قبل ذلك أيضًا.
لقد أدلت أندرسون بمواقف أنكرت ارتكاب «إسرائيل» إبادة جماعية أو استهدافها المدنيّين، بالإضافة إلى وصفها غزّة بأنّها «دولة فاشلة» رغم أنّها ليست دولة. وهي جميعها أمور يُفترض أن تعرف حقيقتها مختصّة في الحقوق الدولية.
انضمّت أندرسون إلى «جيش» الاحتلال بعدما عملت في مركز أبحاث إسرائيلي يديره القائد السابق لهذا «الجيش».
بعد ذلك، أصبحت مساعدةً قانونيةً لرئيس المحكمة العليا الإسرائيلية، وهي المحكمة التي رفضت قبل أسبوعَين عريضةً للسماح بإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة، مانحةً الضوء الأخضر لاستخدام التجويع كسلاح، ما يشكّل جريمة حرب بموجب اتفاقية جنيف.
يشير التحقيق إلى أنّ دور أندرسون في «ميتا» مهمّ، إذ إنّها تعمل على تطوير التوجيهات القانونية والسياسات ونقاط الحديث في العلاقات العامّة بخصوص قضايا الذكاء الاصطناعي وتنظيمه.
يرافق أندرسون أكثر من مئة موظّف، تساءل التحقيق عن ارتباطاتهم التي تسمح للاستخبارات الصهيونية بالحصول على داتا مستخدمي منصّات «ميتا»، خصوصًا أنّ نصفهم يعمل في مكاتب الشركة في «تلّ أبيب».
واتساب مصيدة للمقاومين
استند التحقيق في ما سبق إلى فضيحة «لاڤندر» العام الماضي التي أظهرت تسلّل «الوحدة 8200» إلى مجموعات واتساب ووضعها شارات على كلّ الأسماء في مجموعة ما لاغتيالها إذا كان اسم واحد فقط عضوًا مزعومًا في «حماس»، بصرف النظر عن حجم المجموعة أو محتواها.
بعض الموظّفين ممّن كانوا جواسيسَ أمضى أوقاتًا طويلة في «الوحدة 8200»، وفي حالات معيّنة قفز مباشرةً من خدمة الاحتلال إلى «ميتا»، ما يثير الريبة أكثر. ومن هؤلاء: غي شنكرمان، وميكي روتشيلد، ومكسيم شموكلر. علمًا أنّ روتشيلد هو نائب رئيس إدارة المنتجات في مقرّ «ميتا» في سانيڤال (كاليفورنيا)، وأمضى ثلاث سنوات خلال الانتفاضة الثانية كقائد لفرقة «موران» في «جيش» الاحتلال، التي تتحكّم بالضربات الصاروخية بعيدة المدى.
شريك أساسي للاحتلال
هكذا، تكون «ميتا» شريكًا أساسيًا للاحتلال في جرائمه، ليس فقط ضدّ الفلسطينيّين، بل ضدّ مختلف شعوب المنطقة والعالم ممّن تستهدفهم سياسات الحجب والقمع وحتّى التهديد الجسدي.
مآل الأمور، ولا سيّما إزاء الذكاء الاصطناعي، ينذر بمشهد كارثي، خصوصًا بعدما أعلنت «ميتا» في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي أنّها «سعيدة» بالعمل مع أبرز شركات تصنيع الأسلحة والأمن القومي الأميركية، مثل «لوكهيد مارتن» و«پالانتير» و«أندوريل».
تضاف ذلك إلى سيطرة أباطرة التكنولوجيا على قبضة السلطة منذ انطلاق عهد دونالد ترامب الثاني، ما يزيد على الكارثة نظرًا إلى توجّه هؤلاء مع الإدارة الجديدة نحو الدفاع غير المحدود عن «إسرائيل» وإعطائها الضوء الأخضر للقيام بما تريد، بل استخدام المنصّات والخدمات التي يملكونها لمساعدتها، كما مع أداة Dataminr أو استحواذ «غوغل» على شركة «ويز» التي أسّسها ضبّاط من «الوحدة 8200».