اوراق مختارة

"حرب" لغارلاند وميندوزا: جنود أميركيون وتمارين جمبازية في العراق

post-img

محمد صبحي/ العربي الجديد

"لن تأتي أميركا إلى بلدك وتقتل شعبك فحسب، بل ستعود بعد 20 عامًا، وتُنتج فيلمًا عن كيف أنْ قتل شعبك جعل جنودها يشعرون بالحزن". لا يُركّز فيلم "حرب" (Warfare) تحديدًا على الجنود المكروبين، لكنّ هذا الاقتباس من الكوميدي الاسكتلندي فرانكي بويل، يُبرز عبثية وعنف إعادة تمثيل الحرب سينمائيًا؛ ففي النهاية، ما الذي يُحاول فيلمٌ تحقيقه من إعادة تمثيل معركة، حصلت في العراق في العام 2006؟

بعد تخيّله حربًا أهلية أميركية مستقبلية في "حرب أهلية" (2024)، عاد أليكس غارلاند (Alex Garland) إلى الأفلام الحربية - مع المخرج المشارك راي ميندوزا (Ray Mendoza)، والفيلم الجديد مستوحى من مذكّراته- في فيلمٍ لا يحمل عنوانًا سوى "حرب": حرب منكّرة وعمومية. جديده يتناول ماضيًا أميركيًا (2006)، عن معركة في الرمادي، في أثناء احتلال العراق. غارلاند ليس معروفًا بتحليله المُعمّق، فمجال تفوّقه يكمن في سرد قصص بصرية. هذه مهارة تتجلّى بوضوح في "حرب" الذي كتبه وأخرجه بالتعاون مع ميندوزا المُحارب القديم في العراق.

يبدأ "حرب" بمشهد جنود يتحلّقون حول جهاز كمبيوتر، يُشغّل Call on Me، فيديو أغنية (2004) لإريك بريدز. أجواء صاخبة وحسّية، تؤدّي فيها شابات شبه عاريات تمارين جمبازية مُثيرة جنسيًا، ثم يسود صمتٌ وظلام. يتجوّل الجنود في منطقة سكنية عراقية ليلًا، باحثين عن منزل لاستخدامه قاعدة. هذا التحوّل في النبرة والحدّة مُبهرٌ، تقنيًا وعاطفيًا، سيستخدمه غارلاند وميندوزا مرة أخرى بعد نحو 30 دقيقة، عندما يتعرّض الجنود لإطلاق نار مفاجئ. بعد نصف ساعة من التركيز على التجارب الحسّية للجنود (حَكّ مؤخرة الرأس، شرب الماء من زجاجة بلاستيكية، التبوّل في زجاجة بلاستيكية أخرى، استنشاق التبغ من الأنف)، يضرب "حرب" بقوّة.

بصرف النظر عن سبب وجوده، مهمّ أولًا أنْ يسأل المتفرّج نفسه عن هدفه، ولماذا، وبأي طموح يُصنع. مع أنّه فيلم حربي مُثير للغاية، هو لا يُقدّم منظورًا جديدًا للحرب في العراق. في الواقع، مشكوك بإمكان وجود هذا المنظور الجديد في فيلمٍ أميركي، خاصة كـ"حرب"، المبني على ذكريات الجنود أنفسهم، لا سيما ميندوزا نفسه. لا يعرف الجنود ما تعنيه الحرب لخصومهم، فهم مُدرَّبون على عدم الاكتراث، و"حرب" الذي يتناول ذكرياتهم، لا يكترث بالعراقيين. لكن، هناك محاولات للتعاطف معهم، كما في مشهد صبي عراقي يقف أمام منزل استولى عليه الجنود، ثم دمَّروه لاحقًا بالرصاص، والقنابل اليدوية، وقنابل الدخان، وسفك الدماء.

هذه المحاولات ضئيلة، في فيلمٍ مبني على لغة بصرية إشكالية: يظهر الجنود الأميركيون أفراد/ذوات متفرّدة في لقطات مقرّبة، بينما المقاتلون العراقيون كتلًا بشرية بلا وجوه، يظهرون عادة من خلال منظار القنّاصة الأميركيين، أو كأهدافٍ مضيئة في لقطات جوّية بالأسود والأبيض، وفي الحالات كلّها بأوشحة ملفوفة حول رؤوسهم، ما يجعل وجودهم قابلًا للتبادل فيما بينهم، فلا يتمايز أحدهم عن الآخر.

بخلاف أفلامٍ حربية أخرى لمخرجين كويليام ويلمان وسام فولر، لا يصلح "حرب" وسيلة لفهم/تحليل الذات الأميركية أو العسكرية. لا يطرح ميندوزا وغارلاند أسئلة عن معنى وعبثية مؤسّسة، مثل الجيش، وعن القيود التي يفرضها على الأفراد، وعن المسؤولية الأخلاقية للجندي الفرد. ما يُقدّمه غارلاند حرب خالصة. في مقاعد السينما، نشهد واقعًا ملموسًا. الحرب بوصفها عملًا فنيًا. لا كلمة واحدة مشحونة أيديولوجيًا، ولا سرد عن العدو أو الصديق، ولا تأمّل في الأمّة أو الجندي أو الذات أو العائلة أو الشكّ. لا يبقى سوى الخوف والأنين والعرق، والدماء طبعًا.

يطفو سؤال: أيُمكن إنجاز فيلم مناهض للحرب؟ أو: أيُمكن إنتاج فيلم أكشن مُناهض للحرب؟ إذا كان الهدف النهائي لفيلم الأكشن الترفيه، فكلّ محاولات التشكيك في شرعية الحرب عقيمة. ربما تكون فكرة سرد القصص نفسها غير متوافقة مع أي شيء مُناهض للحرب، لأنّ القصة، بحكم تعريفها، تُعطي معنى لشيء ما. بينما أفضل نقد للحرب إظهار عبثيّتها ودمارها ولافعاليتها.

فلماذا تصوير حرب العراق؟ على نطاق مُصغّر، يروي ميندوزا وغارلاند القصة الأكبر: استولت أميركا على دولة أجنبية، وتركتها مُدمّرة. في نهاية هذه المعركة، المُصوّرة كلّها تقريبًا في الوقت الفعلي، تُركِّز الكاميرا (ديفيد جي تومبسون) على الدمار الذي خلّفه الجنود الأميركيون، وعلى المدنيين الذين فقدوا منازلهم. لأي هدف؟ يُظهر "حرب" مدى عبثية هذه المعركة. راح القتلى والجرحى بلا سببٍ. لا يُذكر سبب وجود الجنود هنا إلا بمصطلحات عسكرية غامضة، ولا يزال انخراطهم في القتال غامضًا. كما أنّ السياقات العسكرية والسياسية والأيديولوجية المتنوّعة التي تندرج فيها العملية العسكرية المصوّرة، أُغفِلت. في مشهد، حين يُسأل، يصرخ جندي شاب يائسًا: "لا أعرف! لا أعرف!".

لكنّ هذه المعركة العبثية تجعل الجنود أبطالًا. وإنْ لم توضّح ذلك لقطات الحركة العديدة (من دون موسيقى، لكنّها مُبهرة رغم ذلك). فشارة النهاية التي تظهر فيها الوجوه الحقيقية للجنود إلى جانب الممثلين الذين أدّوا أدوارهم، تُؤكّد ذلك. وإذا كان تبديد أسطورة بطل الحرب غير مُمكن، فكلّ محاولات تبديد أسطورة الحرب نفسها ستذهب سدى.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد