إبراهيم نصر الله/ جريدة القدس العربي
كنتَ تسمع في ما مضى من يقول للفلسطيني وهو يتحدّث عن عذاباته وما لحِقَ به من قتل ودمار: «إنك تبالغ»، بعد سبعة وسبعين عامًا من ذلك، تسمع ما يقول للفلسطيني الشيء نفسه، ولكن ليس بالكلام، بل بالعمى.
تبدأ الإبادة دائمًا من فكرة عنصرية، حينما يضع القتلة أنفسهم فوق الجميع، وكما لو أنهم العِرْق البشري الوحيد على الأرض. هذا الاستعلاء، أو التعالي الطاغي، يتيح لهم أن يقتلوا أكثر عدد من البشر، كما يحدث الآن؛ وهم لا يقتلون عن بُعد لأنهم يخشون يومًا يحسّون فيه بالذنب، بل لأنهم يرون في أنفسهم أنهم «أرقى» من أن يسمعوا صراخ ضحاياهم ويروا عيون هذه الضحايا وجراحها وأشلاءها.
القتلة الذين يقدمون أنفسهم دائمًا بأنهم أبناء لحضارة قادمة لتوطين الحضارة في كل مكان تصل إليه جيوشهم، ولكن ما يقدمونه دائمًا أيضًا، لهذه الأماكن ولهذه الشعوب هو الدمار والموت.
هؤلاء العنصريون لا يُولدون في لحظة، فخلْفهم تاريخ طويل، تعلّموا فيه الكراهية، وتعلّموا فيه قتل أفراد أو مجموعات صغيرة، قرى بسيطة، بيوتًا وحقولًا وجداول ماء ومدارس ومزارعين يؤاخون الأشجار ويحزنون كثيرًا لأن هذه الأشجار تنام في بعض ليالي الشتاء في البرد.
هكذا يتمرّن القتلة، يومًا بعد يوم، وحين يصبحون على قناعة تامة من أنهم لا يقتلون بشرًا بل وحوشًا، ولا يدمرون قرى وبلدات بل جحورًا وخرائب، فيتقدّمون لإبادة ما هو أكثر، حضارة الأماكن وحكايات الشعوب، تراثها الذي في الأرض، وتراثها الذي في البشر. فأفضل وسيلة لقتل أغنية أو حكاية أو عادة شعبية أو معتقد أو حبٍّ لهذا الكون، هو قتل الإنسان الذي يعيش في داخله كل هذا الجمال.
ثمة كيان عنصري لم يتوقّف في أي يوم من الأيام عن إعداد من فيه ليكونوا صامتين لأيام كهذه، لأنه جهزهم لا بالنظريات بل بحقول القتل التي أتاحها لهم منذ تأسيسه ليقتلوا من يريدون ويُهجِّروا من يريدون ويدمروا ما يريدون. لا يوجد فريقان في هذا الكيان، بل فريق واحد، كتيبة واحدة، فيلق واحد في زمن الإبادة هذا، قسم منه يمحو الحياة البشرية بطائراته وجنوده، وقسم يحرس مرتكبي الإبادة بصمته، لذا ليس غريبًا أن نرى أن مَن في هذا الكيان لا يرفعون أصواتهم أبدًا، ولعله لم يحدث في تاريخ البشرية أن اتفق كيان بأكمله على ضرورة الإبادة كما يتّفق هؤلاء.
لعلها المرة الأولى أيضًا حين نقول كلمة «احتلال»، لا تكون فيها الكلمة عائدة لجيش بجنوده ودباباته وقادته، بل يعني كل شيء في ذلك الكيان، لا مجازيًا، بل فعلي، ففي كل بيت هناك جندي أو أكثر عاملون على جبهة الإبادة، أو جندي احتياط أو أكثر ينتظرون الوقت الذي يتاح لهم فيه ممارسة الإبادة.
في هذه الإبادة التي تعيشها غزة، ستظل هنالك إبادة مستمرة، تطحن قلوب كلّ من نجا، وقلوب من أصبحوا الآن بنصف أجسادهم، أو ثلثها أو ربعها، أو فقدوا فردًا أو نصف العائلة أو معظمها، أو كلها، ولكنهم على المستوى الروحي سيظلون، مهما نجوا، ضحايا ذاكرة إبادة متجددة، كل يوم مع مطلع كل شمس ومع غيابها.
لن تنتهي هذه الإبادة أبدًا، كما النكبة التي لم تنته منذ سبعة وسبعين عامًا، ونحن الآن على بعد أيام من ذكراها القاتمة، هذه النكبة التي لن تنتهي حتى بعودة الفلسطيني ذات يوم إلى وطنه، فلا شيء يستطيع أن يمحو ما عاشه وماته حتى لو كان بحجم العودة.
تتّحد العنصرية مع الصمت بطريقة غير مسبوقة حقًا، عنصرية طليقة وعالم همجي كما لو أنه لم يسمع لا بكتب السماء ولا بكتب الأرض ولا بوصايا الفلاسفة والحكماء والأنبياء، كما لو أنه لم يعرف المدارس بعد، ولا الجامعات، ولم يقرأ حرفًا في كتاب الحياة؛ كما لو أنه لم يعش حروبًا بما يكفي، كما لو أنه لم يبكِ ضحاياه ذات يوم، بل ذات أيام، ولم يذق دمار أوطانه، واستباحة دمه وكرامته وحقّه في هواء بلاده وترابها، حقّه في أن يجد قبرًا لجسده، وحقّ جسده في أن يكون كاملًا في لحظات الدفن، لا أشلاء؛ للقبر بعضها، وللكلاب الضالة بعض، ولعتمة الرّماد بعض، وللهدم بعض. وحقّه في اسمه أن يكون واضحًا لا رقمًا، وحقه في ألا تُكتب على كفنه تلك الكلمة المرعبة: مجهول.
ثمة وحش انطلق، هو خلاصة مرعبة لكل وحوش الماضي، ووصل إلى هنا في زمن هو خلاصة أزمنة موت الضمير، وحش يصور الإبادة كشكل من أشكال النجاة، ويقف العالم متفرجًا متناسيًا أنها جريمة الجرائم، وهنا يكمن جوهر الرّعب في هذه المعادلة؛ فعدد الضحايا كبير، لكن عدد الأرواح الميتة التي تراقب هذا كله، دون أن تفعل شيئًا، أكبر من عدد الضحايا بملايين المرات، في زمن بات فيه الشر مطلقًا، يُقرر من يعيش ومن يموت حسب أهوائه، وهكذا تختلط ملامح القتلة بملامح الشهود الرّخام، هؤلاء الشهود الذين لا يدركون أنهم ليسوا أكثر من ضحايا مؤجلة لإبادات أخرى، بات ارتكابها، ويا للرعب، أمرًا سهلا للغاية! لأن القتلة يتفاخرون كل يوم، بل في اليوم عشرات المرات، أنهم سيواصلون القتل، ويواصلون الإبادة، بلغة هي أقرب للغة الأبطال، لا لغة السفاحين. وهذا هو السقوط الأكثر تراجيدية لكل القيم التي دافعت عنها البشرية واحتضنتها منذ بداية وجود البشر على هذا الكوكب.
وبعــد:
مرعب أن يصل العالم إلى هذه الهاوية، بحيث تبدو الحرية القصوى هي أن يملك القتلة الحرية القصوى لاختيار ضحاياهم كما يريدون، ومتى يريدون، بالعدد الذي يريدون، في أي مكان يريدون، فلا تعتقد أنك بعيد عن كل هذا، لأنك بالتأكيد الضحية التالية، فقد تحوّلت «رخصة للقتل» إلى «رخصة لإبادة».