جريدة الأخبار
شنّ حاكم مصرف لبنان كريم سعيد، هجوماً واسعاً على مشروع قانون معالجة أوضاع القطاع المصرفي المُحال من الحكومة إلى مجلس النواب، محوره الأساسي «استقلالية مصرف لبنان» التي ستتعرّض لـ«طعنة» ولـ«خرق فاضح» بسبب توسيع صلاحيات لجنة الرقابة على المصارف، فضلاً ، أنه بموجب هذا المشروع ستخضع الهيئة المصرفية العليا لـ«تبعية سياسية مباشرة ومبطّنة».
العرض الذي قدّمه سعيد أمام لجنة المال والموازنة بشأن هذا المشروع، لم يناقش بشكل معمّق بعد، إنما أظهر أن إقرار هذه الصيغة من المشروع سيخلق تناقضات وتداخلات في الصلاحيات بين الحاكمية والمؤسسات المرتبطة بها، ما دفع اللجنة إلى اتخاذ قرار بإنشاء لجنة فرعية لدراسة المشروع ربطاً بملاحظات الحاكم لتوحيد المشروع بين الاثنين ثم مناقشته في لجنة المال.
أمس عُقدت الجلسة الثانية من لجنة المال والموازنة المخصّصة لدرس مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف. في الجلسة الأولى استمعت اللجنة إلى تقديم من وزير المال ياسين جابر، وهذه المرّة استمعت إلى حاكم مصرف لبنان كريم سعيد. الأخير، قدّم ملاحظاته على المشروع باسم مصرف لبنان على ملف من 33 صفحة فولسكاب بعنوان: «دراسة قانونية حول استقلالية مصرف لبنان وضرورة الحفاظ على تجانس التشريع المصرفي».
مشروع ضرب «الاستقلالية»
قُسمت الدراسة إلى قسمين: الأول يعالج مبدأ استقلالية مصرف لبنان، والثاني عن مكان الشرذمة التشريعية المعتمدة في مشروع القانون. وفي القسم الأول، جرى عرض جوهر استقلالية مصرف لبنان، انطلاقاً من الأسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف التي تشير إلى استقلالية المصرف المركزي تجاه السلطات السياسية وعلاقته بالدولة.
وتشير الدراسة إلى أن التشريعات اللاحقة لقانون النقد والتسليف حافظت على حصرية الأمور المصرفية عنده وتمحورت وتناسقت حول قانون 1963 (قانون النقد والتسليف)، إذ إن «كل تشريع صدر بعد قانون النقد والتسليف في مجال المصارف والمال حافظ على ارتباط وثيق مع قانون النقد والتسليف ومع مصرف لبنان».
وهذا الأمر ينطبق على القانون 67/2 الرامي إلى «إخضاع المصارف التي تتوقف عن الدفع لأحكام خاصة»، والقانون 28/67 وتعديلاته الذي أنشأ المؤسسة الوطنية لضمان الودائع ولجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا، والقانون 161 المتعلق بالأسواق المالية، والقانون 44 المتعلق بمكافحة تبييض الأموال.
واستناداً إلى هذا الربط، تقول الدراسة إن إتمام المهمة الموكلة إلى مصرف لبنان بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف يفرض الامتناع عن تشتيت الصلاحيات بين مصرف لبنان وجهات أخرى.
وتناقش الدراسة في مسألة تبويب قانون النقد والتسليف وتراتبيته لتشير إلى أن استقلالية مصرف لبنان هي جوهر كل التشريعات المتعلقة بالمصارف والمال، وتستنتج بأن «أي تعديل يطرأ على مجموعة القوانين المصرفية يتوجب عليه حكماً أن يراعي الهرمية المعتمدة في النصوص المؤسِّسة (...) ولا يمكن أن تكون له شرعية قانونية إلا إذا جاء ضمن هذه الهيكلية والأحكام».
ثمة 31 ملاحظة في هذا القسم تمتد على 20 صفحة، تفنّد الاستقلالية القانونية والوحدة أو التجانس التشريعي في القوانين المرتبطة وتستند إلى الدستور الفرنسي وتقارن مع قوانين في دول أجنبية... لتخلص إلى أنه لا يمكن إخضاع السياسة المصرفية والنقدية «لأي سياسة حكومية ظرفية قد تتبدّل مع تبدّل الحكومات».
أول الانتهاكات: لجنة الرقابة
كل المقدّمات القانونية في القسم الأول كانت تمهّد لشنّ هجوم مركّز في القسم الثاني عمّا ورد في مشروع القانون لجهة توسيع صلاحيات لجنة الرقابة على المصارف. تقول الدراسة إن مشروع معالجة أوضاع المصارف «يمسّ بشكل مباشر وجوهري مبدأ استقلالية المصرف المركزي وأيضاً مبدأ التجانس التشريعي» مشيرة إلى أن الانتهاكات في هذا المجال كثيرة، وأوّلها إعادة تشكيل وتأليف الهيئة المصرفية العليا عبر استحداث مناسب في عضوية الهيئة واستبعاد مناصب كانت موجودة بإدراج رئيس لجنة الرقابة على المصارف كعضو جديد في الهيئة العليا.
وإن انضمام رئيس اللجنة إلى عضوية الهيئة المصرفية العليا، هو خرق مباشر لنظام مصرف لبنان والهرمية والتراتبية المتّبعة في أجهزته والدوائر العاملة لديه.
أيضاً إن إضافة رئيس لجنة الرقابة إلى جانب حاكم مصرف لبنان وأحد نائبي الحاكم المختار من مجلس المصرف المركزي، تجعل من لجنة الرقابة جهازاً رقابياً وتقريرياً على حدّ سواء، كما تجعلها سلطة مناهضة لحاكم مصرف لبنان والمجلس المركزي... وهذا يدكّ في الصميم مبدأ الاستقلالية ووحدة المصرف».
لم يكتف سعيد بهذا الحدّ من النقد، بل قال إن لجنة الرقابة ليست من الأجهزة التنظيمية لمصرف لبنان بل هي «دائرة رقابة لدى المصرف المركزي بحسب المادة 8 من القانون 28/67»، وبالتالي فإن إدراج رئيس اللجنة في الهيئة «هو بمثابة إعادة تنظيم للمصرف المركزي وإحداث خلخلة عَمودية لهيكليته، وتخويل اللجنة بالجلوس كعضو دائم في الهيئة إلى جانب الحاكم هو بمثابة انقلاب مباشر على تنظيم المصرف المركزي وأجهزته الإدارية والتنفيذية، لأنه بذلك تُعطى اللجنة منصباً إدارياً وتقريرياً يضاهي منصب الحاكم ونائب الحاكم... فكيف لرئيس لجنة رقابة تابع لمصرف لبنان أن يعتلي منصباً إدارياً وتقريرياً بموازاة الحاكم ويلعب دوراً أوسع من دوره الرقابي...».
يتوسّع الحديث عن الدور والصلاحيات سواء ما يرتبط بلجنة الرقابة أو بالهيئة المصرفية العليا أو بمصرف لبنان، لكن في المجمل هناك أكثر من 9 ملاحظات واسعة تتعلق بتوسيع صلاحيات لجنة الرقابة على المصارف. ثم ينتقل سعيد إلى التعديلات التي رُسمت في مشروع القانون بشأن تشكيل الهيئة المصرفية العليا والتي جاءت مشوبة بخروقات عديدة أهمها: الحدّ من استقلالية المصرف المركزي، والتبعية السياسية المباشرة والمبطّنة للهيئة». فإلى جانب إدخال رئيس لجنة الرقابة إلى الهيئة المصرفية العليا بما يؤدي ذلك من مزج بين المهام الرقابية وسلطة المعاقبة، فإن استبعاد القاضي المعيّن بمرسوم من هذه الهيئة هو «طعن آخر في مبدأ استقلالية عمل الهيئة كما جاء في قانون النقد والتسليف»، فضلاً عن أن إدخال أعضاء جدد كخبراء ماليين ومصرفيين وقانونيين «تتم تسميتهم وتعيينهم من قبل الوزراء المختصّين، هو خرق فاضح لاستقلالية الهيئة والمصرف المركزي، إذ لا يجوز أن تتدخّل السلطة التنفيذية في المساهمة بتأليف أعضاء الهيئة». كما أن تعيين ثلاثة خبراء بعد نزع الصوت الترجيحي للحاكم والاعتماد على قرار الأكثرية بأربعة أعضاء يؤدّي إلى أن «تصبح الهيكلية بشكل مباشر وغير مباشر تحت وصاية الخبراء المُسمّين والمُعيّنين من قبل الوزراء».
وتلفت الدراسة إلى أن مشروع قانون الإصلاح «لم يؤكد أي مرجعية للمصرف المركزي، ولم يلحظ له أي مهام تنظيمية أو حتى استشارية في عملية وضع المصارف وإعادة تنظيمها، بل إن الهيئة المصرفية العليا التي كانت مولجة بتنفيذ عقوبات إدارية أصبحت «ترسم وتعزّز استقرار النظام المالي وتقوم بمهام موسّعة من تخمين وتقييم وإقرار تصفية المصارف من دون أي مرجعية إدارية أو قضائية».
تخلص الدراسة إلى أن المشروع «غير دستوري» ولا يحترم «مبدأ فصل السلطات»، ويهمّش دور مصرف لبنان، و«يعرّض الاستقرار المالي والسياسة المصرفية المؤتمن عليها مصرف لبنان وعلى رأسه المجلس المركزي، للخطر».
من استنتاجات الدراسة بشأن مصرف لبنان
أتى مشروع قانون معالجة أوضاع المصارف وإصلاحها، ليقضي على التنظيم المصرفي برمّته بذريعة تعزيز نظام الاستقرار المالي:
- همّش دور المجلس المركزي والحاكم، إذ لم يعد لهما أي مرجعية لا على لجنة الرقابة ولا على الأعمال الموسّعة المعطاة للهيئة المصرفية العليا.
- وسّع صلاحيات الهيئة المصرفية العليا لتصبح صلاحيات استنسابية وأعطاها سلطة تقديرية حتى على أعمال لجنة الرقابة على المصارف التي أصبحت ترفع توصياتها إلى الهيئة فقط ويحق لهذه الأخيرة ألّا تأخذ بتلك التوصيات.
- أعطى للهيئة المصرفية العليا سلطة الفصل والتقرير بمفردها في تصفية المصارف، ولها كامل الصلاحيات في أمور التخمين وتعيين المصفّين والمديرين المؤقتين وتحديد مهامهم وعزلهم دون أي مراقبة قضائية مسبقة ودون أي مراعاة لحق الدفاع للمصرف المقرّر تصفيته أو أي احترام لمبدأ الوجاهية الواجب احترامه عندما تتخطى العقوبات الإدارية حدودها المسلكية لتصبح من مصافّ الأحكام شبه القضائية.
أزمة نظامية: ماذا يعني ذلك؟
قال رئيس لجنة الموازنة النائب إبراهيم كنعان إنه في الجلسة السابقة نوقشت مسألة ما إذا كانت الأزمة «نظامية أو شاملة»، وإن الحاكم قال للنواب إن «ما نحن فيه منذ 2019 هو أزمة نظامية يسمّيها البعض شاملة، ولا خوف من التسمية لأنها لا تبرّئ أحداً من المصارف أو سواها».
في الواقع، المصارف سوّقت في السنوات الماضية لمفهوم «الأزمة النظامية» باعتباره يلقي عنها بعض الخسائر ويحمّلها للدولة، أي إنها كانت تخصص هذه التسمية للقول إنه يترتب على الدولة أن تدفع للمودعين. لكنّ الواقع، هو أن المفهوم بحدّ ذاته، ليس قانوناً أو عرفاً متفقاً عليه حول العالم، ولا توجد معايير أو بنود واضحة لما هي عليه الأزمة النظامية وتوزيع المسؤوليات، بل إن القيام بتوزيع الخسائر وتحديد المسؤوليات هو فعل سياسي يتقرّر ربطاً بموازين القوّة في المجتمع.