د. زينب الطحان/ موقع "أوزاق"
على ما يبدو ستشكّل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى بعض الدول العربية مفصلًا تاريخيًا في تاريخ القضية الفلسطينية. مجددًا.. يحاولون اعتماد سردية أخرى- "اتفاقيات إبراهام"- لاغتصاب فلسطين، وسيبعها قادة الأنظمة العربية الجدد مجددًا ..
نعم؛ دومًا، هي فلسطين، هي السيدة المجبولة بالطهر منذ أقدم الأزمان؛ حين توالت على أرضها بعض الرسالات السماوية؛ فحفر اسمها في قلوب الآف من الشهداء العرب ومعهم الفلسطينيين، منذ ما قبل "النكبة" التاريخية، وصولًا إلى هذه اللحظة، والتي نشهد فيها يوميًا المجازر والإبادة الجماعية بحق أهل قطاع غزة المحاصر.
عندما أعلنت الأمم المتحدة "اللعينة"، بفرض من القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، قيام "دولة إسرائيل" هبّت الشعوب العربية غاضبة؛ ما أجبر الأنظمة على الإسراع بتسليح الجيوش؛ للدخول إلى فلسطين..
لكن؛ ماذا حدث؟
كل هذه الجيوش العربية انهزمت أمام عصابات إجرامية غربية قادمة من دول الغرب وأوروبا؛ تفتك يمنيًا وشمالًا بالفلسطينيين، قتلًا وتهجيرًا وإرهابًا واضطهادًا..إحدى الروايات/الأسباب التي تداولت بعد النكبة، وكانت الأشهر على الإطلاق، هي قضية "الأسلحة الفاسدة"؛ والتي زوّدت بها بريطانيا مصر لتحارب في فلسطين.,! تصوّر أن الدولة التي سلّمت فلسطين لليهود الصهاينة المستعمرين؛ صدّقَ العربُ أنها هي نفسها ستكون دعمًا لهم لاسترجاع فلسطين..!
مهما يكن؛ ما تزال إلى اليوم قضية الأسلحة الفاسدة التي كانت عتاد الجيش المصري، في حرب فلسطين في العام 1948، مثار جدل بين من يقول إنها مجرد أسطورة سيقت لتسوبغ الهزيمة والانكسار؛ وهناك من يؤكدها محمّلًا من قام بها مسؤولية ضياع فلسطين..لقد كانت وقتها الدول العربية تنال حريتها من نير الاستعمار الغربي، بلدًا تلو البلد، ولم يكن بعد قد اكتمل تسليح الجيوش، أو بناء منظومة عسكرية ورؤية ثقافية واستراتيجية متبلورة لقيادة شعوبها. لذلك؛ يقال إن الملك فاروق طلب على الفور استيراد الأسلحة من أي مصدر كان، وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر قرارًا بحظر بيع الأسلحة للدول المتحاربة في حرب فلسطين، وهو قرار كان يقصد منه الدول العربية بالذات. لذلك اضطرت الحكومة المصرية إلى إجراء صفقات الأسلحة مع شركات السلاح، تحت غطاء أسماء وسطاء وسماسرة مصريين وأجانب، ما فتح الباب للتلاعب لتحقيق مكاسب ضخمة وعمولات غير مشروعة؛ فكان التلاعب يتم في عاملين أساسيين هما: سعر شراء السلاح الذي كان مبالغا فيه إلى درجة كبيرة، ومدى مطابقة السلاح للمواصفات وصلاحيته للاستعمال.
لكن؛ تبيّن بعدما عاد الجنود المصريون محبطين من الهزيمة في فلسطين أن الأسلحة كانت "مضروبة"، وآخرون قالوا إنها كانت تنفجر بهم.. وكشف الأديب والكاتب الصحافي الراحل إحسان عبد القدوس على صفحات مجلة "روزاليوسف"، والتي كان يترأس تحريرها، "قضية الأسلحة الفاسدة"، وقال إن الجيش المصري تعرض للخيانة في حرب فلسطين العام 1948، واستخدم: "أسلحة فاسدة قتلته بدلًا من قتل العدو، فكان ذلك سبب الهزيمة". آثار هذا الكشف فضحية كبرى للملك وحاشيته، في العام 1950، خصوصًا بسبب تقرير ديوان المحاسبة الذي وردت فيه مخالفات مالية جسيمة شابت صفقات أسلحة للجيش، بين عامي 1948 و1949.
كما يقال إن هناك تحقيقًا قد فُتح في القضية، وعاد وأقفل لعدم كفاية الأدلة. مع ذلك؛ هناك وثائق جمعت شهادت من العديد من الجنود الذي رووا حقيقة ما جرى، في أن الأسلحة كانت قديمة ومهترئة، ولم تساعدهم في تحقيق النصر؛ مع أن التأريخ يسجل انتصارات للجيش المصري في العديد من القرى الفلسطينية التي طرد منها اليهود؛ وكذلك تمكّن العديد من الشبان العرب المتطوعين من التغلب على اليهود في بعض القرى، على بدائية أسلحتهم. كما يروى أن فلسطينين قاوموا في بعض القرى وتمكّنوا من دحر اليهود، وعندما كان الجيش العربي يصل إليهم كان يُطلب منهم تسليم أسلحتهم والمغادرة؛ على أساس أن الجيوش القادمة ستكمل مهمة التحرير..!
هذه القضية، الأسلحة الفاسدة؛ نفاها عدد من القيادات العسكرية في الجيش المصري بعد سنوات طويلة، في مقابلات تلفزيونية وصحفية، وبيّنوا أن هناك مبالغة في القصة؛ فالجيش المصري لم يُهزم فقط بسبب فساد الأسلحة.. صحيح؛ هناك أسباب وعوامل عديدة هزمت الجيوش العربية في فلسطين، منها عدم التجهز الكامل للحرب، وعدم القدرة على الحصول على الأسلحة المتطورة آنذاك، وعدم التنسيق بين قيادات هذه الجيوش، وتفكك رؤيتها وعدم وقوفها على أهداف واحدة؛ أضف إلى ذلك ما يؤرخ لخيانة الجيش الأردني الذي غدر بالفلسطينين المقاومين حين وثقوا به.. وغيرها من الأسباب؛ ولكن كان واضحًا أن قضية الأسلحة الفاسدة ليست قضية مختلقة بتاتًا؛ وإن كان هناك من بالغ فيها..
المؤرخ العسكري أحمد حمروش، وهو أحد رفاق الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، يقول في كتاب "النكبة وحقيقة نصف الدولة" عن الأسلحة الفاسدة: "إن بريطانيا كانت مورد السلاح الوحيد للجيش المصري، وكونها مدينة بنحو 400 مليون إسترليني، فقد قامت بتقديم أسلحة -أي أسلحة- للجيش المصري على أن يخصم ثمنها من تلك الديون، ولذلك فلم تكن الأسلحة فاسدة، ولكن متخلفة لا تستطيع الصمود في حرب مثل حرب فلسطين". وأكد أنها كانت من بقايا الحرب العالمية الثانية، استعان بها الجيش نتيجة تكاتف المعسكر الغربي، ورفضه تصدير الأسلحة للدول التي تحارب "إسرائيل"، ومنها مصر بالطبع.
في السيرة الذاتية التي كتبتها هدى جمال عبد الناصر عن والدها، في الموقع الذي يحمل اسم الرئيس الراحل تقول: "وبعد رجوعه إلى القاهرة أصبح جمال عبد الناصر واثقًا من أن المعركة الحقيقية هي في مصر، فبينما كان ورفاقه يحاربون في فلسطين كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة وباعوها للجيش". كما توضح الوثائق البريطانية وقائع قضية الأسلحة الفاسدة بالتفصيل من خلال عشرة ملفات كاملة، أربعة ملفات منها في العام 1948، وأربعة ملفات في العام 1949، وملف واحد لكل من عامي 1950، و1951. وتلقي الوثائق البريطانية بمسؤولية صفقات الأسلحة الفاسدة علي مجموعة من كبار قيادات الجيش، ومن أبرزهم الفريق حيدر باشا وزير الحربية، والأدميرال أحمد ندر رئيس أركان القوات البحرية، وأحد أفراد الأسرة المالكة. ويتضح من تلك الوثائق أن صفقات الأسلحة الفاسدة لم تتم في أثناء حرب فلسطين فقط، إنما امتدت حتي منتصف العام 1949.
كما يروي الراحل الصحفي المصري الكبير محمد حسنين هيكل أن معظم هذا السلاح كان باقيًا في مخازن أوروبا وإيطاليا بالذات منذ الحرب العالمية الثانية، حيث كانت إيطاليا سوقًا مفتوحة لبيع هذه الأسلحة.
.. وهكذا..خانت الأنظمة العربية فلسطين؛ وتركتها فريسة للصهاينة اليهود الأوروبيين
اليوم؛ مع ذكرى النكبة ومضي 77 عامًا؛ نشاهد العرب يشترون الأسلحة والمزيد من الأسلحة، قطر وحدها وقّعت يوم أمس-14/5/2025- اتفاقيات لشراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة، خلال وجود ترامب الرئيس الأميركي الصديق المخلص والراعي للكيان الإسرائيلي في دارها بقيمة ١،٢ تريليون دولار.. وقطر الدولة التي لا تعادي أحدًا؛ ومطبّعة مع عدو الأمة؛ تشتري هذا القدر من الأسلحة المتطورة..ماذا سيفعلون بها؟ سيكدّسونها في مخازن سيأكلها العفن والرطوبة..لن تُستعمل في تحرير فلسطين؛ وهل يعقل أن يخالفوا سيرة الأباء والأجداد من قبلهم؟!..وهل يُعقل أن عرّاب الكيان الغاصب هو نفسه يسلّمه هذا الكم من تلك الأسلحة النوعية لو لديه، ما نسبته واحد بالمئة من شك، بخصوص دور لقطر في دعم فلسطين؟!
تمامًا؛ مثلما فعلت بريطانيا حين أوردت للجيش المصري أسلحة مهترئة غير صالحة للاستعمال؛ وهي تضمن بذلك سلفًا خسرانها الحرب في فلسطين ..! ولكن هذه المرة؛ الأسلحة براقة وفائقة التطور؛ مع فارق واحد...هي ليست للاستعمال..
هو غباء مستشري في ملوك العرب وزعمائها أم هي العبودية الطوعية؟
ثمة فرنسي قديم واسع الثقافة يدعى إتيان دو لا بْويسيه (Étienne de La Boétie) وضع في شبابه (1553) كتابًا عنوانه مثير: "خطاب عن العبودية الطوعية"، تمازجت فيه دراسته للحقوق بالفلسفة والتاريخ والشعر، وذلك ردًا على واقع اجتماعي فرنسي يستثير الغضب والعقول الكارهة للطغيان والمستبدين. فقد رأى هذا الكاتب، مع شيء من السخرية، أن الطغيان لا يفرضه الطغاة الفاسدون، وأن عبودية الشعب طوعية، تستولدها الطبائع المشوهة والعقول المستقيلة والأرواح الخاملة، وأن الخاضعين عليهم أن يحرروا ذواتهم من عادات الخضوع، وأن يهزموا استسلامهم المفزوع باندفاع إلى الحرية، لا مساومة فيه"..
مع الأنظمة الرسمية الرجعية في العالم العربي لا يمكن تصديق ما يقوله هذا الفرنسي؛ لأنهم من طينة متوارثة جُبلت على الجبن والخنوع؛ فأصبحت تُنقل عبر الجينات الوراثية يتناقلها أبناؤهم أو أتباع لهم الذين يستلمون الحكم تباعًا..
غير أن أجيالنا الحرّة التي تتشّرب روح الشرف والإباء من دماء الشهداء، وخصوصًا العظام منهم- أمثال الشهيد الأسمى السيد حسن نصرالله- والتي ترث في جيناتها الوراثية رفض الذل والخنوع وروح التمرد والثورة على الظلم، تتابع المسير ولن تكلّ أبدًا حتى تحرير فلسطين من البحر إلى النهر..