بيانات سرية خرجت من شركة «ميتا» تهز رواية «إسرائيل» الرقمية. ما الذي يكشفه الانهيار المخفي في سوق الإعلانات؟ ومن المستفيد الحقيقي من هذا النزيف؟
علي عواد/جريدة الأخبار
منذ اليوم الأول للحرب على غزة، خرجت أبواق الدعاية الإسرائيلية لتبشّرنا بأن اقتصاد «أمة الشركات الناشئة» لم يتأثر، وأن شركات التكنولوجيا تواصل نموها بوتيرة لم يعهدها التاريخ. أرادونا أن نصدق أن «إسرائيل» دولة لا تهزم حتى في السوق الرقمي، وأن حملة المقاطعة العالمية مجرد نكتة يتداولها الحاقدون على منصات التواصل.
لكن تسرّب بيانات داخلية من شركة «ميتا» كشف ما حاولت الدعاية الإسرائيلية دفنه: شركات التكنولوجيا الإسرائيلية تغرق، والدولار يهرب منها أسرع من هروب جيشها من جنين!
أرقام تكذّب الرواية الإسرائيلية
وفقًا لوثائق سرية حصل عليها موقع Drop Site News من مصادر داخل «ميتا»، شهدت الإعلانات المدفوعة للشركات الإسرائيلية على السوشال ميديا انهيارًا دراماتيكيًا في الفعالية مقابل ارتفاع هائل في التكاليف. بين عامَي 2023 و2025، ارتفع ما يُسمى «كلفة النقرة الواحدة» (CPC) على إعلانات الشركات الإسرائيلية على منصات التواصل بنسبة 155 في المئة، من 0.094 دولار إلى 0.24 دولار.
باختصار، الإسرائيلي الذي كان يشتري اهتمام الناس بعشرة سنتات صار يحتاج إلى ربع دولار كي يحصل على «كليك» يتيم من زبون مشكوك في ولائه، وسط حملة مقاطعة لا تهدأ.
هذه النسبة لا تشبه أي اتجاه عالمي، كما يحب محترفو العلاقات العامة تبرير الانهيار. فقد سجلت «إسرائيل» أعلى زيادة سنوية في كلفة الإعلانات على مستوى العالم، متفوقةً حتى على العراق وباكستان!.. وبينما أنفقت الشركات الإسرائيلية ما بين 1.8 و1.9 مليار دولار سنويًا على إعلانات «ميتا» في تلك المدة، شهدت فعالية هذه الإعلانات هبوطًا عموديًا. عدد النقرات على الإعلانات الإسرائيلية في 2025 لم يتجاوز 39 في المئة من عددها في 2023، أي إن نصف الجمهور هجر السفينة، رغم المليارات المنفقة لمحاولة شراء عطف مستحيل.
المقاطعة تلاحق الجميع
عندما ارتفعت أعداد الشهداء المدنيين في غزة أواخر 2023، تسابقت الشركات الإسرائيلية إلى إخفاء هويتها عن إعلاناتها الرقمية خوفًا من المقاطعة العالمية. حتى شركات التسويق الرقمي التي لا تعلن عن نفسها أنها إسرائيلية بدأت الترويج لمواقف داعمة لكيان الاحتلال بشكل فج في إعلاناتها. ومع ذلك، تكشف بيانات «ميتا» أن هذا التكتيك لم ينقذ أحدًا: فلا جمهور متعاطفًا.
الدول الأكثر استهدافًا بإعلانات إسرائيلية شهدت تعاظمًا غير مسبوق في كلفة الإعلان: الولايات المتحدة (+93 في المئة)، بريطانيا (+163 في المئة)، كندا (+106 في المئة)، ألمانيا (+144 في المئة)، فرنسا، أستراليا… والقائمة تطول.
المفارقة أن معدل زيادة الكلفة للشركات العالمية في هذه البلدان بقي ثابتًا تقريبًا (أقل من 10 في المئة). السوق يلفظ العلامة التجارية الإسرائيلية، ولا شيء ينقذها مهما ارتفع الإنفاق أو اشتدّ التضليل.
«هاسبارا» بالمليارات
المهزلة أن الحكومة الإسرائيلية ردّت على انهيار السمعة الرقمية بالمزيد من الأموال. في أواخر 2024، زادت «وزارة الخارجية» ميزانية الدعاية أو البروباغندا «هاسبارا» بمبلغ 150 مليون دولار دفعة واحدة، أي عشرين ضعفًا للمعدل المعتاد، بينما تعاني قطاعات الصحة والتعليم من تقشف لا ينتهي.
لم يمنع ذلك انهيار صورة «إسرائيل» في مؤشرات القوة الناعمة الدولية: في تقرير «براند فاينانس» السنوي، تراجعت إسرائيل 42 مرتبة دفعة واحدة، لتحتل في المرتبة 121 عالميًا، في أدنى مركز منذ بدء التصنيف.
حتى المجتمع الأميركي الذي اشتهر تاريخيًا بتأييده المطلق لكيان الاحتلال بدأ ينفضّ عنها. استطلاع مركز «بيو» الأخير أظهر أنّ 53 في المئة من الأميركيين لديهم نظرة سلبية لإسرائيل، مقابل 42 في المئة فقط قبل عامين. بين جيل الشباب والأقل من 50 عامًا، النسبة أسوأ بكثير، حتى إنّ نصف الجمهوريين الشباب صاروا ضد «إسرائيل».
أثر اقتصادي لا يمكن إخفاؤه
في ظل هذا المشهد، تواصل «ميتا» تصعيد الرقابة على المحتوى الفلسطيني في محاولة لحماية السوق الإسرائيلي ومنع تدهور صورة الشركات الإسرائيلية عالميًا.
لكن كل هذه الإجراءات فشلت في وقف النزيف المالي: مع ارتفاع كلفة الإعلانات وانخفاض التفاعل بشكل غير مسبوق، اضطرت الشركات الإسرائيلية إلى تقليص إنفاقها بنسبة 8 في المئة بين عامَي 2023 و2024، بعدما فقدت الثقة في جدوى الإعلانات وصارت تواجه مقاطعة متصاعدة من المستهلكين حول العالم.
بهذا المعنى، لم تعد القصة مجرد أرقام أو حملات رقمية؛ ما يجري هو تغيّر جذري في المزاج العالمي بدأ يفرض كلمته على الاقتصاد الإسرائيلي بقوة لا يستطيع أي «لوبي» أو خوارزمية إنكارها.
انتهى زمن الدعاية الإسرائيلية الكلاسيكية. لم تعد التقنيات الرقمية قادرة على إخفاء عجز الشركات عن إيجاد زبون واحد خارج حدود اليمين المتطرف في تل أبيب.
كل دولار يُنفق على إعلان إسرائيلي صار عبئًا ماليًا وأخلاقيًا، وتسريبات «ميتا» اليوم تفضح ما حاولت حكومة نتنياهو تغطيته بأكوام من الدعاية.