مروة جردي/ جريدة الأخبار
اشتعلت جبهة داخلية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووسائل الإعلام الأميركية، خاصة شبكة CNN وصحيفة «نيويورك تايمز». بينما كانت الأنظار موجّهة إلى نتائج الضربة الأميركية الأخيرة على المنشآت النووية الإيرانية، اشتعلت جبهة داخلية موازية بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووسائل الإعلام الأميركية، خاصة شبكة CNN وصحيفة «نيويورك تايمز». معركة لم تكن فقط حول تفاصيل ميدانية، بل حول من يملك «حق الرواية الأخيرة للحدث»: السلطة أم الصحافة؟
«اطردوا الكلبة »... الضربة كانت «دمارًا شاملًا»
في 25 حزيران (يونيو) 2025، بثّت شبكة CNN تقريرًا استند إلى تقييم استخباراتي أولي صادر عن «وكالة استخبارات الدفاع» (DIA)، يُشير إلى أن الضربات الأميركية «لم تُدمّر كليًا » البنية التحتية النووية لإيران، بل «أخّرت البرنامج النووي الإيراني لعدة أشهر فقط وليس لعقود كما تمت إشاعته ».
الرئيس ترامب لم يتأخر في الرد، فوصف الصحافية ناتاشا بيرتراند بأنها «تكذب »، مطالبًا بطردها «كما يُطرد الكلب»، واتّهمها بـ «تشويه صورة الطيارين الوطنيين» الذين نفّذوا الضربة، رابطًا ذلك بتقاريرها السّابقة. وفي بيان رسمي، وصف البيت الأبيض التقييم بأنه «منخفض الثقة» و «تسريب غير مسؤول يهدف لتقويض الإدارة»، مصرًّا على أن «الضربة كانت دمارًا شاملًا».
ردت بيرتراند على كلام ترامب بأسلوب غير مألوف في المشهد الصحافي العربي، فنشرت في حسابها على إنستغرام مقطعًا يؤكد عبارة ترامب «رُميت مثل الكلب »، تلاه ميم لكلبها Wallace Cornelius III، مع تعليق «أخذتها على محمل شخصي »، وصورة كلبتها الأخرى مرفقة بتعليق ساخر.
صحيفة «نيويورك تايمز» أيّدت ما نُشر عن تقييم DIA، مشيرة إلى أنه رغم وصف ترامب للتقرير بـ «الأخبار الكاذبة »، إلا أنه اعترف بإطلاعه عليه. وقال المتحدث باسم الصحيفة، تشارلز شتادلاندر: «إذًا، فإن بيان البيت الأبيض كان هو الكاذب، لا تقريرنا».
الإعلاميون في CNN، وعلى رأسهم جيك تابر، أكدوا أنّ «الصحافيين لم يخترعوا هذه المعلومات بل نقلوها »، واصفين حملة ترامب بأنها محاولة لترويع الصحافيين وإخضاعهم. وذكّروا بسوابق للإدارات الأميركية المتعاقبة في تضليل الإعلام والرأي العام، كما حدث في حربي فيتنام والعراق، حين كُشفت لاحقًا وثائق تدحض الروايات الرسمية.
ترامب والإعلام.. معركة على «الرواية» لا «الحقيقة »
معركة الروايات لا الحقيقة ما يجري ليس مجرد خلاف حول تغطية ضربة عسكرية. إنه نموذج حادّ لصراع على السردية. يسعى ترامب لتحويل أي اختلاف إعلامي إلى «خيانة»، ويحمّل الصحافيين مسؤولية التشكيك في «بطولاته »، بينما تتمسك الصحافة الأميركية بحقها في تقديم رواية بديلة، ليس دائمًا بدافع قول الحقيقة، بل أحيانًا انسجامًا مع مصالحها المؤسسية.
في مقال نشره «معهد الجزيرة للإعلام» بتاريخ 15 حزيران 2025، بعنوان «كيف تجاهلت وسائل الإعلام الأميركية حقائق الضربة العسكرية على إيران؟»، وُثّقت حالات من الانحياز الإعلامي، لا سيما من «نيويورك تايمز» وCNN، حيث اكتفت الأولى بترديد بيانات البيت الأبيض، مركزة على «دقة» الضربة و «أثرها الرادع»، من دون الإشارة إلى الضحايا المدنيين أو التشكيك في قانونية الهجوم. أما CNN، فقد انشغلت بالبث المباشر واستعراض القوة الأميركية، متجاهلة الأصوات من داخل إيران وتحذيرات منظمات حقوقية من أن العملية استهدفت مناطق مأهولة.
الأسوأ أن المنصتين لم تحاولا تقديم سردية بديلة أو حتى متوازنة، بل ساهمتا في شرعنة العملية عبر تغييب السياق التاريخي والسياسي، وتقديم طهران كتهديد وجودي. بهذا، لم تُقصف إيران وحدها، بل الحقيقة أيضًا. وفي هذا السياق يمكن فهم الترويج لتقرير الاستخبارات الأميركية الذي يقلل من فاعلية الضربة الأميركية تجاه المنشآت النووية هو لصالح إسرائيل التي لا تبدو راضية عن التدخل الأميركي المحدود في حربها الأخيرة ضد إيران التي أدت إلى الضغط عليها للقبول بهدنة لوقف إطلاق النار.
ترامب حارس البوابة الإعلامية
هذا التصعيد الإعلامي لم يكن معزولًا، بل جاء ضمن مسار أوسع. منذ عودته إلى البيت الأبيض وترامب يحاول التخلص من وسائل وشبكات الإعلام الكبرى التي صارت تشكل واحدة من جماعات الضغط التي تعمل لصالح قوى أبرزها اللوبي الصهيوني، الذي يمتلك حضورًا عميقًا في غرف التحرير ومجالس إدارة الشبكات الكبرى مثل NBC وABC وحتى «نيويورك تايمز».
في كل مرة تشتعل فيها حرب في الشرق الأوسط، تظهر هذه العلاقة على السطح: في الانتقاء اللغوي، في تغييب الضحايا غير المرغوب في ذكرهم، وفي الدفاع عن قرارات عسكرية لم تُطرح حتى للنقاش العام، والعمل على تطبيع فكرة العدوان العسكري الأميركي على بلدان كأداة «مشروعة » ويصير النقاش: هل كانت كافية أم كان عليها أن تكون أكبر وأكثر فتكًا؟، بما يسهم في تغييب النقاشات حول أخلاقيات وسياسات الحروب.
لكن قبل اتهام ترامب بتقييد حرية الإعلام، ربما يجدر بنا أن نسأل: هل الإعلام الأميركي حرٌ فعلًا؟ أم أنه نفسه جزءٌ من ماكينة السلطة والعدوان، والخلاف فقط على رواية تناسب قاطن البيت الأبيض أو تل أبيب؟