حمزة الشتاوي/ كاتب وإعلامي
النضال والأدب، في سيرة غسان كنفاني ومسيرته، يحملان كثيرًا من الحب والفرح والحزن والغضب والثورة والإحساس بالعجز والانكسار، والتنديد بالصمت والخنوع والخذلان.
في سيرة غسان تحضر لغة شفافة جميلة وثاقبة وحيوية مليئة بالتحدي والثقة والحس الوطني العالي، والذي يسهم في تجاوز خيبات الأمل واليأس والإحباط، وسيرته الكفاحية العالية تذكرنا دائمًا بمسؤولياتنا تجاه الوطن والتاريخ والأجيال.
لطالما رددنا أمام كل التحديات والمخاطر سؤال أبو الخيزران، في رواية "رجال في الشمس"، حين قال: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟". وهذا السؤال مطروح، اليوم، على الأفراد والنخب الثقافية والسياسية في ظل حرب الإبادة الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة والضفة الغربية، والمزيد من الإخفاقات والصمت المخزي تجاه ما يجري في غزة والضفة والسجون والمخيمات، وسط حالٍ غير مسبوقة من العجز من أصحاب القرار.
لقد رحل غسان كنفاني وما تزال سيرته النضالية وأعماله الأدبية تعبّر بإبداع جميل ووضوح شديد عن كفاح الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال. وفي الماضي والحاضر والمستقبل؛ يمكن لأي قارئ في العالم أن يطلع على كتاباته السياسية وأعماله الأدبية ليفهم عدالة قضية فلسطين، ويصبح متضامنًا مع كفاح شعبها ومقاومته التي طرق رجالها في غزة جدران الخزان.
لغزة وأهلها مكانة واهتمام كبير، في كتابات غسان كنفاني السياسية والأدبية. وهي تقدم، اليوم، على الرغم من أهوال الحرب، المعنى الحقيقي للحياة والصبر وقيمة الوجود في مواجهة المجازر والدمار. وهو الذي قال، خلال زيارته إلى غزة: وهو يقول : ""أشعر، اليوم أكثر من أي وقت مضى، بأن قيمة كلماتي مهما عظُمت، تظلّ تعويضًا هشًّا وتافهًا عن غياب السلاح، وأنها تتوارى أمام إشراق أولئك الرجال الحقيقيين الذين يموتون كل يوم."
لهذا السبب وغيره؛ قام الاحتلال بقصف المدارس التي تحمل أسم غسان كنفاني في قطاع غزة، لأنه ما يزال حاضرًا كمرآة ساطعة للأدب والكفاح الفلسطيني، على الرغم من الركام والغبار والأشلاء التي تسأل عما تبقى من القيم الإنسانية والأخلاقية في هذا العالم أمام ما يجري في قطاع غزة؟!
يتميز موقف غسان كنفاني السياسي والأدبي بعدم وجود حلول الوسط ما بين الضحية والجلاد، لقد وصف المفاوضات مع الاحتلال أنها حوار "بين السكين والرقبة"..
اليوم؛ نستعيد سيرته النضالية والأدبية كونها البوصلة والدليل الذي يزداد حضوره، في مسيرة الشعب الفلسطيني في أماكن وجودهكافة، وبخاصة في غزة والضفة والمخيمات، حيث ما يزال حاضرًا بكلماته ومواقفه وآثاره السياسية وأعماله الأدبية الخالدة التي تحولت إلى اقتباسات وشعارات تكتب على جدران أزقة المخيمات في الداخل والشتات.
لقد عمل غسان كنفاني، حتى لحظة استشهاده، في مجال الكتابة السياسية والأدبية، فترسخت صورته أديبًا ثوريًا شابًا على الرغم من انشغالاته بالعمل السياسي والإعلامي، وملتزمًا بالشروط الجمالية للأدب الذي تناول فيه الهم الوطني الفلسطيني وفقًا لرؤية تمثل أحلام الناس ومعاناتهم، واستنادًا إلى وعيه الثقافي والوطني، بصفته مثقفًا فلسطينيًا ماركسيًا قوميًا منتميًا إلى قضية شعبه الذي ما يزال يعاني؛ كما عرفه غسان، صعوبات الطريق نحو الوطن والرغيف.
في سيرته ومسيرته النضالية؛ كان مؤمنًا بالمقاومة والكفاح المسلح، فكرًا وعملًا، وهو الذي عرّفنا أدب المقاومة في فلسطين بدراستين، كما عرّفنا بدراسة ثالثة الأدب الصهيوني ودوره في إنشاء الكيان على أرض فلسطين، والترويج للدعاية الصهيونية وخطرها الكبير.
في أدب غسان كنفاني؛ تتشكل الذاكرة الفلسطينية وسط استعارات مؤثرة لمسيرة النضال، وحكايات النكبة واللجوء والنكسة والاحتلال والمقاومة من أجل الحرية والعودة والاستقلال. وهذا ما جعله مؤرخًا للجرح الفلسطيني الفردي والجماعي، إلى الجانب التاريخي. وهو، بوصفه فنانًا وأديبًا مناضلًا وصحافيًا وناقدًا أصبح أيقونة الأدب الفلسطيني، وهو الذي جمع في سيرته ما بين النضال والأدب، وشكل في حياته واستشهاده ظاهرة مضيئة في سيرورة الثقافة الوطنية الفلسطينية، ثقافة واحدة وموحدة لفلسطين الأرض والإنسان.
خلال سنين عمره القصيرة (6 نيسان 1936- 8 تموز 1972) أصدر ثماني عشرة كتابًا، وكتب مئات المقالات في السياسة والأدب، مقدمًا أجوبة حاسمة عن الأسئلة المتعلقة بالشعب الفلسطيني ومقاومته دفاعًا عن حقوقه المشروعة. كما دافع غسان كنفاني عن المخيم ولم يقدمه بصورة بائسة، بل صوّر في كتاباته حكايات الأمل والألم، مؤكدًا ضرورة رفض الواقع بالفعل الثوري والنضال من أجل العودة إلى البلاد.
في السيرة والمسيرة الحافلة بالإنتاج الأدبي والفكري والعمل السياسي؛ تبرز حكايات اللجوء وكفاح اللاجئين الفلسطينيين لمحو آثار النكبة التي حولت كنفاني وأسرته إلى لاجئين بعد وصولهم إلى صيدا- جنوب لبنان، في أواخر شهر نيسان من العام 1948، فارتبطت سيرته الأدبية والنضالية بمعاناة اللاجئين، مع أنه لم يسكن في المخيمات، لكنّ تجربته الشخصية وانتماءه المبكر لحركة القوميين العرب أسهما في بناء وعيه السياسي في مواجهة الاحتلال وأشكال الذل والخضوع كلها.
لقد شكّلت العاصمة اللبنانية بيروت، وما فيها من مخاض ثقافي وسياسي وإعلامي، المكان الأرحب لعمله ونشاطه السياسي والأدبي. وهذا ما أسهم، أيضًا، في تدشين مرحلة جديدة في ذلك الوقت عنوانها النضال من أجل العودة، بديلًا عن الاستسلام والتشرد والمعاناة. كما شكّل التنظير للثوة والتمرد على الهزيمة أحد أبرز معالم أدب غسان كنفاني وكفاحه ونضاله اليومي من أجل الحرية والعودة وتقرير المصير، وهو الذي قال: "خُلِقَت أَكتافُ الرِّجالِ لِحَملِ البَنادِقِ، فإمّا عُظَماءُ فوقَ الأرضِ، أو عِظامًا في جَوفِها".
نص ألقي، في ندوة أقامتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، في الذكرى الـ53 لاستشهاد الأديب الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، بعنوان "سيرة غسان كنفاني بين النضال والأدب"، في مدينة صيدا _ جنوب لبنان.