حسين كوراني
شكلت مزارع شبعا على مرّ العقود الماضية إشكالية مستعصية في تحديد هويتها اللبنانية أو السورية. وظهر اسمها على المسرح الدولي بعدما أَجبرت المقاومة في لبنان، "إسرائيل" من الاندحار عن أراضيها في أيار عام 2000 ورفضها الانسحاب من هذه المزارع، متذرعة بأنها تابعة للجولان السوري المحتل.
الموقع الجغرافي الإستراتيجي
تقع مزارع شبعا المحتلة عند مثلث الحدود بين لبنان والجزء المحتل من الجولان السوري وفلسطين المحتلة، وتتبع لمنطقة العرقوب وتمتاز بموقع جغرافي إستراتيجي باعتبارها حلقة وصل مع المستوطنات الإسرائيلية الشمالية والجولان المحتل، وتشرف على جبل عامل والجليل الأعلى والجزء الجنوبي من سلسلة جبال لبنان الغربية وهضبة الجولان وسهول البقاع وحوران والحولة.
تمتد طولًا بحدود 24 كيلومترًا، ويتراوح عرضها بين 13 و14 كيلومترًا، ولا تتعدى بمجملها مساحة 40 كيلومترًا مربعًا، وهي تقع على منحدرات وتلال وبعض السهول والهضاب التي تتميّز بخصوبة تربتها وتنوع زراعتها، وترتفع 1200 متر عن سطح البحر.
ولعل أبرز ما يدلل على إستراتيجية المزارع هو العدد الكبير من المراصد العسكرية الإسرائيلية منذ احتلالها عام 1967 حتّى الآن، أبرزها مرصد الفوار الذي يعدّ من أضخم المراصد العسكرية بمنطقة الشرق الأوسط.
الأسباب التي أضاعت هويتها
منذ عام 1967 بدأت الاعتداءات الإسرائيلية على المزارع وأهلها من أجل تهجيرهم، واستمرت سياسة القضم الإسرائيلية لأراضي المزارع حتّى عام 1989، حيث وضعت أسلاكًا شائكة حول المزارع وأقامت المراكز العسكرية بداخلها وعلى مرتفعاتها.
في أيار 2000، انسحبت "إسرائيل" من جنوب لبنان وبلدة شبعا وأبقت على احتلالها للمزارع. وعقب الانسحاب، رسم فريق أممي خط الانسحاب الذي سمي بالخط الأزرق، وأعلن أن "إسرائيل" أتمت انسحابها من كامل الأراضي اللبنانية وفقًا للقرار الدولي رقم 425، وأكدت الأمم المتحدة بإعلانها هذا أن مزارع شبعا سورية، وخاضعة لقرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالجولان المحتل. لكن لبنان رفض الاعتراف بالإعلان وأصرّ على لبنانيتها وتحريرها بالمقاومة.
ويذكر تقرير أممي، صدر يوم 22 أيار 2000، أن الأمم المتحدة تلقت خريطة مؤرخة في عام 1966، من حكومة لبنان تعكس موقف الحكومة أن هذه المزارع كانت واقعة داخل لبنان. غير أن في حوزة الأمم المتحدة عشر خرائط أخرى أصدرتها، بعد عام 1996، مؤسسات حكومية لبنانية، منها وزارة الدفاع، تضع المزارع داخل الجمهورية العربية السورية.
على الجانب السوري، أكد فاروق الشرع، النائب السابق للرئيس السوري في أيار 2000 للأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، أن "سورية تدعم ادعاء لبنان بأن مزارع شبعا لبنانية". وفي كانون الثاني 2006، أوضح الأسد أن مزارع شبعا لبنانية، لكنّه شدد على أن "ترسيم الحدود يكون بعد انسحاب "إسرائيل" من هذه المنطقة".
وعلى الرغم من ذلك، فإن سورية لم تعترف بهوية المزارع اللبنانية، باستثناء تصريحات شفهية من أركانها ووزرائها تحدثت عن لبنانية المزارع لكن بعد تحريرها، عِلمًا بأن الحكومة السورية السابقة لم تقبل ترسيم الحدود. ولم تترجَم التصريحات العلنية السورية بلبنانية المزارع إلى اعتراف رسمي.
من جانبها، ادّعت "إسرائيل" في أيار 2000 أن مزارع شبعا كانت تحت السيطرة السورية عندما احتلتها في حرب الأيام الستة عام 1967، ورأت أن ادعاء لبنانيتها جاء بإيعاز من سورية وحزب الله للاستمرار في مهاجمتها. وهذا الادّعاء أدى إلى عدم معرفة هويتها.
أدلة تؤكد لبنانية المزراع
وهناك إشكالية أضاعت هوية المزارع واستند عليها الادّعاء "الإسرائيلي" وكلّ من يعتبر أنها سورية، انطلق من أن منطقة المزارع كانت خاضعة للسيطرة السورية بعد سنة 1958 ويوجد فيها مخافر سورية لحين احتلالها. لكن المواطنون المعمرون الذين لا يزالون على قيد الحياة يروون أن سورية هي من طلبت من لبنان في منتصف خمسينيات القرن الماضي العمل على وقف التهريب من هذه المنطقة الجبلية في اتّجاه فلسطين المحتلة عبر مثلث مغرسبكا اللبنانية - بانياس السورية - الحولة الفلسطينية.
وحين لم تكن للبنان قدرة على ذلك، وضعت سوريا مخافر أمنية في المنطقة بموافقة لبنانية، بينما اقتصر التدخل اللبناني على دوريات للجمارك، والتي كانت تحصي أعداد الماشية، وتدقق في ما إذا كانت هناك عمليات تهريب قد جرت أم لا. ولذلك، حين اجتاحت "إسرائيل" المنطقة، لم تكن توجد في المزارع سوى قوات سورية، فنسبت الأمم المتحدة المزارع المحتلة إلى القرار 242. وما عقّد الأمور أكثر أن الجانبين اللبناني والسوري لم يبادرا إلى حسم هويتها.
المؤرخ والباحث اللبناني في قضايا ترسيم الحدود الدكتور عصام خليفة يؤكد أن "مزارع شبعا لبنانية لأنها تتصل بالحدود اللبنانية مع سورية، لا مع فلسطين. الأمر مثبت بالوثائق التاريخية، إضافة إلى محضر القاضيين العقاريين اللبناني رفيق غزاوي والسوري عدنان الخطيب في شأن بلدة شبعا ومزارعها، والموقّع في زحلة في تاريخ 20 شباط 1946. هناك اتفاق ترسيم حدود في شبعا بيننا وبين سورية، فلمَ لا يبرزونه؟ ولمَ يستمرّون في طرح السؤال عمّا إذا كانت المزارع سورية أو لبنانية، وينتظرون الآخرين؟!"
خليفة، الأكثر من خبير في هذا الشأن، يقول إنه يتكلم بلغة الوثائق والمستندات، ويكشف أنه سلّم ملفًا كاملًا إلى الحكومة اللبنانية ورئيسها نواف سلام: "بات الملف عنده، وبناء على طلبه. الأمر واضح". وإذ يشير إلى أن "المزارع وقرية النخيلة هي داخل الأراضي اللبنانية منذ قيام لبنان الكبير"، يؤكد أن "لبنانية المزارع محسومة. فهي منذ المرحلة العثمانية جزء من شبعا ووحدتها العقارية. صكوك الدولة العثمانية تؤكد انتساب المزارع إلى قضاء حاصبيا. وعام 1920 ذكر قرار الجنرال غورو أن حدود لبنان هي حدود قضاءي حاصبيا ومرجعيون".
ما يؤكد ما سبق، أن باحث "إسرائيلي" في "الجامعة العبرية بالقدس" كان توصل لمستندات فرنسية أرشيفية تؤكد لبنانية المزارع، كما أظهرت مراكز أبحاث لبنانية وثائق تعود إلى عام 1937 و1939 تثبت أن سكان مزارع شبعا كانوا يدفعون ضرائبهم للدولة اللبنانية.
وفي كتاب للعالم الجغرافي الإسرائيلي، موشيه بريفر، ذكر أن هناك خريطتين فرنسيتين، تعودان لعامي 1932 و1946 تؤكدان لبنانية مزارع شبعا، إلا أن الخرائط الإسرائيلية الأحدث تُظهر أن المزارع جزء من سورية.
بالمحصلة، يؤكد تاريخ المنطقة لبنانية المزارع التي كان يعيش فيها لبنانيون، وهو ما يفترض تحركًا لبنانيًا على غير مستوى، واتفاقًا مع سورية يعيد تثبيت لبنانية المزارع بوثيقة تُرفع إلى الأمم المتحدة تعترف بلبنانيتها، وأن يوضّح أن تواجد القوات السورية فيها كان بناء على طلب من لبنان، وأن تدفع سورية إلى إعادة النظر في خرائطها وإعادة ترسيم حدود المنطقة في الوقت المناسب، وربما يستدعي ذلك طلبًا من الأمم المتحدة لاستصدار قرار يساهم في إخراج "إسرائيل" من المنطقة، بالتوازي مع العمل الدبلوماسي وكلّ الوسائل التي حددها البيان الوزاري لحكومة الرئيس نواف سلام من اتّخاذ كلّ الوسائل التي تراها مناسبة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، وخصوصًا مع استمرار "إسرائيل" احتلال أراضٍ ونقاط على طول الحدود واستمرار خروقاتها الحربية ضدّ لبنان.