أوراق ثقافية

الباحث الأمريكي بيتر جران والاستشراق … حكاية مصر المستبدة وإرادة الله

post-img

محمد عبد الرحيم/ جريدة القدس العربي

«الحياة فى مجتمع يعد نفسه غربيًا، ويعد قصة الخروج أصله، كما نعيشه، يجعل من غير المدهش أن نجد لدينا أفكارًا خاصة إلى حد ما عن مصر.. وإذا سمح للعلم أن يغير تفاصيل كيفية فهمنا للتاريخ المصري، فقد تنهار قصة الغرب فى يوم من الأيام وتنهار معها هويتنا». (بيتر جران)

هل تغيّرت النظرة إلى مصر في عين الاستشراق الغربي الذي تحوّل إلى دراسات وأبحاث تخص الشرق الأوسط، كما اعتادت تسميته مؤخرًا؟ هذا التساؤل يحاول الباحث والمؤرخ الأمريكي بيتر جران ـ أستاذ التاريخ المصري الحديث في جامعة تمبل الأمريكية ـ

الإجابة عنه في مؤلفه.. «الاستشراق هيمنة مستمرة.. المؤرخون الأنكلوأمريكيون ومصر الحديثة»، الصادر في لغته الإنكليزية في العام 2020، وقد ترجمته إلى العربية سحر توفيق، وراجعه عاصم الدسوقي، وصدر مؤخرًا عن المجلس القومي للترجمة في القاهرة. يعد الكتاب استمرارًا لمؤلفات سابقة للمؤلف دارت حول علاقة الغرب بالشرق الأوسط، حاولت بدورها بحث فرضيات مختلفة ولافتة في هذا المجال من البحث، نذكر منها.. «الجذور الإسلامية للرأسمالية (مصر 1760 ــ 1840)»، «ما بعد المركزية الأوروبية، وصعود أهل النفوذ» .. «رؤية جديدة لتاريخ العالم الحديث».

الاستبداد الشرقي

يعد هذا المفهوم الافتراضية الكبرى الذي يدور حولها البحث/الكتاب، ومن خلالها نجد صورة ترسخت عند المستشرقين الإنكليز ومن بعدهم الأمريكيين، ومن المفارقة نجد بعض التاريخيين المصريين، آمنوا بهذا المفهوم واعتمدوه في أبحاثهم. فنجد مثالًا ومن فرضيات نموذج (الاستبداد الشرقي) أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج ـ اعتقاد مستمر للآن ــ وهذا الاعتقاد الأخير هو ما يجعل المستشرقين وجانبًا من مدرسة التاريخ المصرية يصرّون على أن حملة نابليون، كانت نقطة النور التي أضاءت التاريخ المصري. إلا أن جران ينفي هذه الفكرة/الأسطورة، ويتفق مع الجيل الأحدث من المؤرخين المصريين (عاصم الدسوقي، ونيللي حنا) على أن الحملة الفرنسية كانت تنبيهًا فقط، لكن ما سبقها لم يكن جمودًا مطلقًا كما تروّج سردية الاستشراق. وبتتبع التفسير الأكاديمى الأنكلوأمريكى لمصر الحديثة، منذ أواخر القرن الـ 19 وحتى اليوم، نجده ينحصر في ثلاث مراحل.. مرحلة التشكيل (منذ 1890 وحتى 1920)، مرحلة تطور الثورة (منذ 1930 وحتى 1970)، ومرحلة العولمة (منذ 1970 وحتى الآن). وطوال تلك المراحل كان نموذج (الاستبداد الشرقي) هو السمة المميزة، مع وجود تحديات صغيرة، كاعتبار مصر بلدًا استبداديًا لكن حداثيًا، أو تقديم تحليل طبقي يستند إلى الفلسفة الماركسية، إلا أن الأخير لم يتطور بشكل كامل. لذا لم تنجح هذه التحديات حتى الآن لتشكل نموذجًا مضادًا للنموذج المستقر.

الاستشراق الأنكلوأمريكي

يرى جران أن الاستشراق الإنكليزي والأمريكي مدرسة واحدة أسسها الإنكليز، دون أن يستطيع المستشرقون الأمريكيون مجاوزة النموذج الإنكليزي. كما أن الاستشراق الأمريكي لم يبدأ علميًا قبل الحرب العالمية الثانية، وقت إنشاء مراكز دراسات الشرق الأوسط، بل كانت قبل ذلك ومرتبطة بأهداف استعمارية ورثتها أمريكا عن إنكلترا، كذلك ـ وهي إشارة مهمة ـ أن تمويل هذه الأبحاث حتى الآن وطبيعة موضوعاتها، التي تُفرض على الباحثين تكون لأهداف سياسية واقتصادية ـ استعمارية في شكلها الحديث ـ وكذلك تمويل الأبحاث المتعلقة بالجندر، وما شابه من هذه المؤسسات في مصر وغيرها.

جناية كرومر

يرى بيتر جران أن كتاب «مصر الحديثة»، الذي ألفه اللورد كرومر، هو الكتاب المؤسِس للدراسات الاستشراقية حتى اليوم، سواء داخل الأكاديميات أو خارجها، على مستوى الرأي والمعتقد تجاه مصر والشرق. فكرومر بدوره كشخص متعلم يعمل في وظيفة كولونيالية، لديه فكرة (المستبد الشرقي)، نتيجة الآراء الكولونيالية السائدة وقتها حول الإمبراطورية العثمانية ـ مصر جزء منها ـ هذا المستبد بدوره كان بحاجة إلى إصلاح رئيسي، وكان الغرب بالطبع هو الأمل الوحيد في الإصلاح. ولذا ليس بمستغرب أن يقول كرومر نفسه إن مهمته الأساسية هي (إصلاح مصر). كذلك فطبيعة تعليم كرومر توضح أنه تلقى تعليمًا أدبيًا لتطوير مهاراته ككاتب وكدارس للكلاسيكيات.

كان هذا التعليم في الكلاسيكيات يعطي الدارس نموذج الإمبراطوريتين الإغريقية والرومانية، كمنظور لفهم الإمبراطورية البريطانية. ولا شك أنه ربما قرأ هيرودوت أول كاتب يقدم فكرة الغرب مقابل الشرق. ويوضح جران تفسير مدى تأثير كتاب كرومر بأنه.. إعادة صياغة واضحة لما هو مألوف. كانت صحف ذلك اليوم تقدم أفكارًا مماثلة، ومن ثم فقد أفاد نشر الكتاب كنوع من تأكيد الحال، كما يعرفه القرّاء، وحيث امتطى الكتاب التقاليد، أصبح من الممكن قراءته فى الولايات المتحدة الأمريكية، لإشارته إلى (سفر الخروج)، وأمكن قراءته في المملكة المتحدة ـ وربما هذا ما قصده كرومر نفسه ـ كنموذج يمثل نمط الاستعمار الإغريقي والروماني. فما بين النموذج الإغريقي والروماني من جهة، وسفر الخروج من جهة، وبينهما (الاستبداد الشرقي) تمت صياغة فكرة الاستشراق في مُجملها.

إرادة الله وشعبه

كانت مصر وستظل وفق الفكر الغربي الأنكلوأمريكي خاصة، معادلًا لـ»الاستبداد الشرقي»، سواء في ماضيها السحيق أو الوقت الراهن، إضافة إلى محاولات مستميتة لبقاء هذه الفكرة والعمل من خلالها داخل الأكاديميات وخارجها. وعن هذا التصوّر يقول جران إنه وثيق الصلة بتصورنا عن أنفسنا كغربيين، والتخلي عنه يعني بدء انهيار الصورة الذهنية للغرب كمجتمع أخلاقي. يعضد ذلك اعتقاد يريدونه راسخًا، يستند إلى سردية مقدسة في (سفر الخروج)، حتى لو اقتنع بها أو رددها متديّن أو غير.

حدث هذا بدءًا من الإصلاح البروتستانتي، الذي أدى دورًا فى صعود رأسمالية العالم الحديث، حيث بدأ البروتستانت في ملاءمة فكرة (الشعب المختار من اليهود)، وبناء تاريخهم وفقا لذلك. فخروج موسى وقيادته شعبه من مصر إلى كنعان، كان بمثابة الخروج إلى الحرية من العبودية. فالله كان له شعبه المختار.. (اليهود ثم المسيحيين)، والذي أصبح اليوم (الغرب)، وهذا تفسير مريح لولادة الغرب، متمثلا في أوروبا ومستعمراتها، والأمريكيين بشكل خاص..

يضيف جران، أن ما كان بارزًا على نحو خاص حول الرحلة إلى كنعان، هو عدم الصلة الواضحة بالأضرار الجانبية التي حدثت خلال تلك العملية.. أغرق الله جيش فرعون في البحر الأحمر، لكن هذه الخسارة الفادحة في الأرواح لم تكن ذات أهمية، على الأقل لم يكن لها أي آثار أخلاقية على العبرانيين.. وصل أسلافنا إلى نتيجة مفادها، أنهم كانوا مثل العبرانيين من قبلهم، وربما شهدوا موت الكثير من الناس، لكنهم لم يكونوا مسؤولين عن ذلك. كانوا روادًا ومستغربين، أي أنهم مثل العبرانيين، كانوا جزءًا من خطة الله لصعود الغرب. ونحمل اليوم هذا الإرث عندما نصف أنفسنا بـ(المستغربين).

صورة مصر في سفر الخروج تم تفسيرها بشكل يلائمنا، وفي التوراة نجد أن الذي نجا في النهاية هم شعب الله المختار، وأن الجنود المصريين غرقوا، ولذلك ينظر إلى القتلى في افريقيا أو أمريكا اللاتينية وغيرها بأنها إرادة الله.. هذا النمط نفسه يتم تدريسه للأطفال الصغار بأن الدول التي كانت مستعمَرة لم تكن دولة، وإنما مجتمعات متفرقة، كما يتجاوزون قضية أن أجدادهم كانوا قتلة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد