هتاف دهام (لبنان 24)
في خضم التصعيد السياسي والعسكري الذي يحيط بلبنان، جاءت تصريحات المسؤول الأميركي توماس براك لتضع النقاط على الحروف، ولكن بلغة تترك لبنان في مهبّ الريح. فقد قال بوضوح: "لا نستطيع إرغام "إسرائيل" على فعل شيء"، مضيفًا أن واشنطن لا تسعى لفرض إرادات، بل لاستخدام نفوذها لدفع الأطراف نحو حل سلمي. هذه العبارات، رغم دبلوماسيتها الظاهرة، تنطوي على اعتراف صارخ بأن لبنان لا يحظى بالأولوية أو الدعم الذي حظيت به دول أخرى في المنطقة، كإيران وسورية، حين تعلق الأمر بالضغط على "إسرائيل".
وهنا تبرز المفارقة، فالولايات المتحدة نجحت في الأيام الماضية في الضغط على "إسرائيل" لوقف الحرب ضدّ سورية وضد قوات الرئيس السوري أحمد الشرع بعد الذي حصل في السويداء، كما مارست نفوذها لوقف الهجمات "الإسرائيلية" على إيران ودفعت الطرفين للقبول بوقف إطلاق النار أما في ما يخص لبنان، فالصورة مختلفة تماما، فلا ضمانات، ولا ضغوط على "إسرائيل"، ولا حتّى مؤشرات على نية أميركية لاحتواء أي تصعيد ميداني.
وفي هذا السياق، يبدو لبنان بلا أي شبكة أمان دولية. فالمواقف الأميركية تشير إلى إمكانية رفع الغطاء عن لبنان، وتركه يواجه مصيره السياسي والعسكري والاقتصادي وحيدا. هذا الموقف، بحسب مصادر مطلعة على أجواء لقاءات براك، يفرغ كلّ محاولات التهدئة أو التفاهم من مضمونها، ويضع الحكومة أمام استحقاقات تفوق إمكاناتها، خصوصًا في ما يتعلق بملف السلاح الذي بات شرطا أساسيًّا لأي دعم خارجي، في ظل الحديث عن جدول زمني ضيق "يداهم الجميع"، كما قال براك.
اتسمت تصريحات براك الأخيرة بلهجة متشددة تجاه حزب الله، إذ وصفه بالمنظمة الإرهابية الأجنبية، كما أقر بفشل اتفاق وقف إطلاق النار، مشيرًا إلى غياب أي ضمانات دولية أو آليات فعالة لإجبار "إسرائيل" على الالتزام بأي تفاهمات.وهذه المواقف تعكس، بحسب المصادر، انهيار الرؤية اللبنانية التي راهنت على وجود مظلة دولية تشكّل عامل ردع للتصعيد، ما يفتح الباب أمام مرحلة أكثر خطورة وتقلّبا في المعادلة القائمة، فغياب أي ضمانات أميركية يعني أن الاعتداءات "الإسرائيلية" لن تتوقف، وأن الاغتيالات ستبقى سلاحًا قائما، وما يزيد الصورة قتامة هو أن هذا الانفلات الأمني يترافق مع استمرار الحصار المالي والاقتصادي على لبنان. فكلّ المؤشرات تدل على أن المجتمع الدولي، وتحديدًا واشنطن، لا يرى في إعادة إعمار لبنان أولوية في هذه المرحلة، ما لم تلب شروط محدّدة، تبدأ بتحييد سلاح حزب الله ولا تنتهي بتبدل في التوازنات الداخلية، فبراك أعلن من السراي أن الفشل في حل ملف السلاح سيكون مخيبًا للأمل.
ومع ذلك، يمكن القول، بحسب المصادر إن براك نجح في دفع المعنيين إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء(بعد عودة رئيس الحكومة نواف سلام من باريس التي يتوجه إليها الخميس) لإقرار ما بات يعرف بـالورقة اللبنانية، وذلك بإجماع القوى كافة المشاركة في الحكومة، علمًا أن ما قدمه لبنان في الرد الأخير يعد الحد الأقصى الممكن وطنيًا وسياسيًا، بل هو صيغة نهائية لا تحتمل تعديلات جوهرية، وعلى الرغم من إبقائه الباب مفتوحًا لأي أفكار جديدة، فإنه اشترط أن تكون ضمن الثوابت اللبنانية، وعلى رأسها سيادة القرار الوطني ووقف الاعتداءات "الإسرائيلية".
وفي هذا الإطار، برز موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي دعا إلى التخلي عن المقاربات المجتزأة، وطرح بدلًا عنها "السلة الكاملة" التي تتضمن انسحابًا إسرائيليًا يليه التفاهم على سحب السلاح، ومن ثمّ بدء النقاش حول إستراتيجية دفاعية وطنية.
وبحسب مصادر مطلعة، فإن لبنان يدفع اليوم إلى زاوية حرجة، وسط تحذيرات بتجاهل دولي، وانعدام كامل للضمانات، واستنزاف داخلي متسارع، لكن من دون مقاربة شاملة تنطلق من الحق في الأمن والسيادة، فإن لبنان سيدخل فعلًا مرحلة "التيه الطويل"، حيث لا حرب تحسم ولا سلم ينجز.