د. ليلى شمس الدين/ باحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام وأستاذة جامعية
في الحروب الحديثة، لم يعد الرصاص وحده هو ما يفتك بالشعوب. هناك سلاح آخر، أشد فتكًا وأقل تكلفة؛ وهي الطائفية. هي أداة بيد القوى الخارجية لإشعال النزاعات وتهديم المجتمعات من الداخل من دون إطلاق رصاصة واحدة. إذ حين تعجز جيوشهم عن الغزو العسكري، يدخلون من أبواب الطوائف، فيستبيحون الأوطان من الداخل.
من يقرأ خريطة النزاعات في منطقتنا، منذ القرن التاسع عشر، لا بدّ أن يلاحظ هذا القاسم المشترك بين كثير من الدول: فرّق، تسُد. شعار قديم، لكنّه لا يزال المحرّك الأساسي لكل تدخّل استعماري أو "تحرّري" مزيّف.
مشاهد من المسرح الكبير: كيف تكون الطائفية أداة المستعمر؟
لبنان.. الطائفية في خدمة الاحتلال الناعم
في العام 1982، حين اجتاحت "إسرائيل" لبنان، لم يكن الهدف الحقيقي إضعاف منظمة التحرير الفلسطينية؛ كما صرّح مسؤولون صهاينة حينها؛ كان إعلانًا ليغطي هدفهم في "إعادة تشكيل التوازن الداخلي في لبنان، بما يسمح لــــ"إسرائيل" بتأدية دور سياسي عبر قوى محليّة صديقة". بمعنى آخر: خلق انقسام طائفي دائم، يُبقي لبنان هشًّا، ويمنح العدو منفذًا للتدخّل من دون اجتياح. هكذا، قام المستعمر بخلق خلافات بين المسيحيين والمسلمين ليغذيها لاحقًا، فأصبح اللخوف والهويّة سلاحًا داخليًا لا يحتاج إلى دبّابات.
سوريا.. معارضة تُخطف باسم الطائفة
عندما انطلقت شرارات المعارضة للنظام السوري السابق حاملة شعارات تطالب بإصلاحات عديدة في العام 2011، لم تتأخّر قوى إقليمية ودولية في حرف المسار نحو الطائفية. وما بدأ في الظاهر أنه احتجاج شعبي، تحوّل بفعل التدخّلات إلى صراع مذهبي دامٍ. انقسم السوريون، لا وفقًا لأرائهم المختلفة في ما يرونه من إصلاحات، بل بحسب طوائفهم. والنتيجة؟ دولة مدمّرة، مجتمع مشرذم، ولاجئون بالملايين، في ما تُسوَّق الحرب على أنها "أهلية"، في حين أنّ جذورها سياسيّة، وكانت الطائفية القناع المفضّل لكل من أراد التدمير من بُعد.
العراق.. الهويّة تتحوّل إلى سلاح
ما إن دخلت القوات الأميركية إلى العاصمة بغداد، في العام 2003، حتى بدأت إعادة تشكيل المجتمع وفقًا لخطوط طائفية. أُلغي حزب "البعث"، لكن لم يُبنَ بديل وطني. بالعكس، فُرضت "المحاصصة الطائفية"، وقُسّمت الدولة إداريًا وشعبيًا، ليُفتح الباب أمام الجماعات المتطرّفة مثل "داعش" و"القاعدة"، تحت شعار "حماية الطائفة". وهكذا، تحوّلت الهويّة الطائفية من عنصر ثقافي إلى أداة قتل، لا تُستخدم ضد المحتل، بل بين أبناء الوطن الواحد. أما العدو؟ فقد نجح في خلق عراق منقسم، عاجز، لا يشكّل تهديدًا لأحد.
السودان.. قبائل تقتتل ومصالح تُدار من بُعد
في السودان، كما في أفريقيا الوسطى، الصراعات القبلية والدينية تتجاوز البعد الداخلي ومآربه؛ إذ تؤكّد تقارير موثوقة أنّ قوى إقليمية ودولية تدعم هذا الطرف أو ذاك، وفقًا لمصالح اقتصادية واستراتيجية: منابع النفط، الموانئ البحرية، المواقع الجيوسياسية. والنتيجة؟ وطن يتآكل من الداخل، والناس ضحايا حسابات الكبار.
لكن، ماذا يعني ذلك كله؟
كل مشهد من هذه المشاهد ليس واقعًا منعزلًا، إنما هو حلقة ضمن سلسلة طويلة من السياسات التي تُحاك باسم الديمقراطية أو التحرّر أو الأمن، لكنها تنتهي دومًا بتفكيك الدول وشرذمة الشعوب.
والسؤال الأخطر هو: من المستفيد حين تُصبح الفوضى مشروعًا!
قد يبدو السؤال عاديًا: من المستفيد؟ لكنّ إجابته تكشف أكثر الإجابات وجعًا وتعقيدًا.
في ثمانينيات القرن الماضي، كتب الباحث "الإسرائيلي" أوديد ينون ما عُرف لاحقًا بـ"خطة ينون"، والتي دعت، بوضوح وصراحة، إلى تفتيت الدول العربية على أسس طائفية وعرقية، هدفه الركيزة الأولى وهو الأمن القومي بالنسبة إلى "إسرائيل".
في نظر "ينون"، لا يمكن لدولة احتلال أن تنعم بالاستقرار وهي محاطة بجيران أقوياء موحّدين. لذلك؛ تصبح الحروب الأهلية والصراعات الطائفية وتغذية الانقسامات أدوات حيوية في معادلة بقاء المحتل وضمان سيطرته. وكلّما اشتعلت الأزمات، وارتفع دخان الفوضى، يعود السؤال ليُطرح: من المستفيد؟
الجواب يطلّ من تحت الركام: العدو الخارجي، من "إسرائيل" إلى أطراف دولية تتقاطع مصالحها على حساب أمن شعوب المنطقة ووحدتها، لتُعاد هندسة الخريطة على شكل دويلات طائفية هشّة، حيث لا دولة بل طائفة، ولا استقرار بل فوضى مُدارة بعناية.
السويداء.. حلقة جديدة من السلسلة المبرمجة
في قلب جبل العرب، محافظة السويداء التي طالما تميّزت بتاريخها الوطني المقاوم، ورفضها الانجرار إلى مستنقع الطائفية منذ اندلاع الأزمة السورية، يُكتب لها اليوم فصول جديدة من الصراع الصامت.
لكنّ هذه المرة، العدو لا يأتي على ظهر دبابة، هو يدخل عبر بوّابات الجوع والفساد والخوف واليأس.
المشهد بات مألوفًا: شباب يُقتلون بلا صوت، إما بالمخدرات أو على يد عصابات الخطف أو عبر الهجرة القسرية. في ما تحوّلت الاحتجاجات الشعبية إلى بيئة هشّة، يسهل دسّ الفتنة فيها، فتظهر مخطّطات لزرع الصراع بين الدروز والسنّة أو العلويين، أو حتى داخل الطائفة نفسها. هكذا تتبلور ما يمكن تسميته بـ"اقتصاد الفوضى"، حيث لكل جهة "مصلحة" في استمرار الانهيار.
إشعال الفتنة .. صناعة متقنة
في إحدى القرى، قيل إنّ مجموعة مسلّحة أطلقت النار عشوائيًا على حاجز محلّي، وتركت منشورات تتّهم طائفة أخرى بالهجوم. هذه الروايات تتكرّر في أكثر من حادثة، والأمر ليس مجرد صدفة؛ هو جزء من هندسة دقيقة للانفجار، حيث تُزرع الشكوك بين أبناء الجبل، ويُغذّى الخوف من الآخر.
الطائفية لا تملأ البطون
"يريدوننا أن نُطلق النار على بعضنا البعض؛ بدل أن نطالب برغيف الخبز"، هكذا قال أحد شيوخ السويداء.
حين ترتفع أصوات الجوع، يُعاد إنتاج الطائفية كلغم جاهز للانفجار. العدو يُدرك جيّدًا أنّ الشعوب المتّحدة خطر على استبداده. لذلك، يعملون على أن تبقى منطقتنا ضعيفة مشغولة بنزاعات داخلية، لا تهدّد أحدًا، ولا تملك قرارها. وكلما اقترب الناس من بلورة مشروع وطني خارج الطائفة يُدفعون به نحو الهاوية مجددًا.
الهدف الحقيقي هو السلم الأهلي
"إسرائيل" لديها مشروع لا يقل خطورة عن "خطة ينون": إقامة منطقة عازلة في جنوب سوريا، منطقة عازلة تُدار من طائفة "محايدة" أو حتى "صديقة"، لا تخضع للدولة المركزية كما يخطّطون. وتحقيق هذا الهدف يمرّ من بوابة تحويل حراك السويداء السلمي إلى اشتباك طائفي دموي. وحين يُضرب السلم الأهلي، يصبح الجنوب السوري لقمة سائغة لأي مشروع انفصالي أو تقسيمي.
دعهم يقتتلون .. واستفد!
من العراق إلى لبنان، ومن فلسطين إلى سوريا، وبعد.. يُعاد استخدام السيناريو نفسه: تفكيك الداخل أولًا، كي لا يكون ثمّة جبهة موحّدة في مواجهة العدو. تُغذّى الطائفية سلاحًا يفتك بأبناء الوطن؛ ويُعاد تدويرها عند كل منعطف خطر.
الطائفية ليست قدَرًا… بل مشروع!
نحن مستهدفون بطوائفنا.. ولذلك، رفض الطائفية اليوم هو فعل مقاومة.. مقاومة ضد كل من يحاول تفكيك الأوطان باسم الاختلاف. مقاومة بالسلاح كما بالوعي، وبالتربية، وبالإعلام، وبالخطاب الذي يُعيد للناس حقيقتهم: أنهم أبناء وطن واحد، مهما اختلفت طوائفهم.
في المحصّلة، علينا أن ندرك أنّ العدو لا دين له، ولا طائفة. عدونا الحقيقي هو كل من يسعى لزرع الحقد والكراهية باسم الهويّة، وكل من يستخدم الخطاب الديني للتفرقة وبث الفتن، وكل من يحرّكنا فينا الغرائز لا العقول.
علينا أن نُدرك أنّ الطائفية ليست قدرًا محتومًا.. إنّها أداة مستوردة، تُستخدم كي نبقى متنافرين، متصارعين، عاجزين عن بناء وطن. وحين ندرك هذا، تصبح الطائفة جزءًا من التنوّع الثقافي الغني، لا قيدًا على الانتماء الوطني. وتصبح المعرفة فعل مقاومة، تفتح الأعين على الخديعة، وتبني وعيًا جمعيًا جديدًا لا يُستدرج أبدًا إلى لعبة الدم.
المصادر والمراجع
السويداء 24، تقارير ميدانية 2022-2024 ww.suwayda24.com
Syria Direct (2023). Multiple Reports on Suwayda Protests. www.syria-direct.org
AUB Crisis Observatory (2023). “Economic Collapse and Sectarian Resilience.” American University of Beirut.
The Chilcot Report (2016)
Human Rights Watch Reports (2011–2014)
Phebe Marr (2012). “The Modern History of Iraq”
Alex de Waal (2007). “Sudan: What Kind of State? What Kind of Crisis?” in Crisis States Working Papers
Chomsky, Noam (2007). "The Fateful Triangle: The United States, Israel and the Palestinians"
Benny Morris (2004), “Righteous Victims: A History of the Zionist-Arab Conflict, 1881–2001”
Yinon, O. (1982). “A Strategy for Israel in the Nineteen Eighties.” *Kivunim*, No. 14, World Zionist Organization.