جاد الحاج (لبنان 24)
لم يعد المشهد الحدودي تفصيلًا في سياق المواجهة مع "إسرائيل"، بل تحوّل، مع التطورات الأخيرة، إلى عنوانٍ مباشر لموقع الدولة من العدوان المستمر. ومع صدور التوجيه الرئاسي من الرئيس جوزاف عون بتكليف الجيش مواجهة أيّ توغّل "إسرائيلي"، برزت ملامح مرحلة جديدة في إدارة الملف الحدودي تتقدّم فيها الدولة بخطابٍ أكثر وضوحًا وحسمًا. فلبنان، الذي التزم طوال الفترة الماضية آليات التنسيق الدولية، قرّر هذه المرّة أن يُعبّر عن التزامه بالشرعية من خلال قرارٍ عمليٍّ يعيد تعريف حدود دوره ومسؤوليته في حماية أرضه وسيادته.
لا يُقاس التحوّل الذي شهده الموقف اللبناني بمدى صرامة الردّ العسكري، بل بوضوح القرار السياسي الذي أعاد للدولة موقع المبادرة، إذ لم يعُد ممكنًا أن تُدار الخروقات بمنطق التوثيق بل أن تُقاس فعالية القرارات الدولية بمدى التزام الأطراف فعليًا بالتطبيق. من هنا، شكّلت الخطوة الرئاسية محطة سياسية متكاملة أعادت رسم موقع الدولة في إدارة الملف الحدودي، بعدما وجّه الرئيس جوزاف عون قائد الجيش إلى التصدي لأيّ توغّلٍ "إسرائيلي"، في ترجمةٍ عمليةٍ لرؤية تعتبر أنّ حماية الأرض ليست استجابةً لحادثٍ آني، بل جوهر الشرعية نفسها. وهكذا استعادت المؤسسة العسكرية دورها الطبيعي في الميدان، مدعومةً بغطاءٍ سياسي واضح يربط الدفاع بالسيادة وليس بالظرف الأمني.
في البعد الدبلوماسي، أعاد القرار اللبناني ضبط العلاقة مع الجهات الدولية المعنية بالقرار 1701، فلبنان الذي حافظ طوال الفترة الماضية على التزام ٍدقيقٍ بقواعد التنسيق مع قوات "اليونيفيل"، وجد نفسه أمام واقعٍ جديد يُحتّم الانتقال من الاكتفاء بالتبليغ إلى المطالبة بالتنفيذ. ومن خلال هذا الموقف، وضع الرئيس جوزاف عون الأمم المتحدة أمام مسؤوليةٍ مباشرة في ضمان تطبيق القرار بحيادٍ كامل، بعدما تحوّل غياب الردع إلى عامل يُشجّع "إسرائيل" على التمادي. وبهذا، اكتسب البيان بُعدًا دبلوماسيًا مضاعفًا، إذ لم يكتفِ بإعلان الموقف، بل استخدم القانون الدولي كوسيلة ضغط تُعيد التوازن إلى العلاقة بين لبنان والمؤسسات الأممية.
ولعلّ توقيت القرار لم يكن تفصيلًا، بل جاء في لحظةٍ تتقاطع فيها الضغوط الميدانية مع الجمود الدبلوماسي. فاستمرار العدوان "الإسرائيلي" وتراجع فاعلية الضغوط الدولية وضعا لبنان أمام خيارٍ واحد: استعادة زمام المبادرة. ومن هذه الزاوية، عكس توجيه الرئيس جوزاف عون إدراكًا رسميًا بأنّ إدارة الحدود لا يمكن أن تبقى محصورة بقنوات التنسيق، بل تحتاج إلى قرارٍ سياسي يحدّد أولويات الدولة في التعامل مع التهديدات. وهكذا، تحوّل البيان إلى محطة مفصلية أعادت التوازن إلى الموقف اللبناني، فأعطت للدبلوماسية ما تستحقّه من مساحة، وللميدان ما يحتاجه من وضوح، في معادلةٍ تحفظ الاستقرار من موقع القوّة لا من موقع المساومة.
في الخلاصة، شكّلت خطوة عون منعطفًا واضحًا أعاد تعريف دور الدولة في حماية حدودها وفي إدارة التوازن بين الردع والالتزام الدولي. فالمقاربة الجديدة لا تهدف إلى تجنّب المواجهة، بل إلى تثبيت الحقّ في الدفاع ضمن منطق الدولة لا خارجه. هي لحظة سياسية تؤكد أنّ السيادة لا تُقاس بحجم الخطاب، بل بقدرة الدولة على الفعل في الوقت المناسب وبالوسيلة التي تحفظ استقرارها وهيبتها في آن.
 
                                 
                             
                                         
                                             
                                             
                                             
                                            