ميرنا دلّول – مناشير
بين الركام والرماد، تقف غزة على مفترق طرق تاريخي. فبعد عام من الحرب الأكثر دموية في تاريخها، لا يزال مصير القطاع غامضًا، ومفتوحًا على ثلاثة سيناريوهات متناقضة: تهدئة هشة، صراع مُجمّد، أو انفجار جديد قد يمتد إلى لبنان والمنطقة.
لكن الأهمّ من مصير غزة بحدّ ذاته، هو ما تعنيه هذه التحولات للبنان — البلد الذي يعيش منذ شهور على خطّ التماس، في ظلّ تصاعد التوتّر بين حزب الله وإسرائيل، وتكثيف الحضور الأميركي عبر مبعوث الرئيس دونالد ترامب، توم براك.
أولًا: غزة في معادلة النار — السيناريوهات الثلاثة المحتملة وفق أحدث التحليلات الدولية، تتراوح التوقّعات بين ثلاثة مسارات رئيسية:
1. سيناريو التهدئة الطويلة يتضمّن هدنة بوساطة أميركية–عربية، وإدارة انتقالية مدنية بإشراف دولي، تمهّد لإعادة الإعمار.
هذا السيناريو يُعدّ الأفضل إنسانيًا، لكنه ضعيف سياسيًا، إذ يصطدم بتعقيدات داخلية إسرائيلية، ورفض يميني لأي “تنازل” في غزة.
2. سيناريو الصراع المُجمّد، هو الأكثر ترجيحًا بحسب المراقبين. تقوم إسرائيل بفرض “إدارة أمنية” جزئية في شمال القطاع، فيما تبقى حماس حاضرة في الجنوب، تحت حصار خانق وأزمة إنسانية طويلة.
بمعنى آخر، لا حرب ولا سلام — بل استمرار “إدارة الأزمة” بدل حلّها.
3. سيناريو الانفجار الإقليمي، في حال انهيار الهدنة أو تنفيذ اغتيال كبير، قد تتوسع المواجهة لتشمل الجنوب اللبناني وربما جبهة الجولان أو البحر الأحمر.
هذا السيناريو قد يعيد المنطقة إلى مربع النار، مع خطر تدخل إيران مباشرة، ودخول الولايات المتحدة في مواجهة غير مباشرة عبر إسرائيل وحلفائها.
ثانيًا: لبنان في مرمى التمدد
منذ أشهر، يعيش الجنوب اللبناني في حالة “استنفار صامت”. الغارات الإسرائيلية المتقطّعة وعدم رد حزب الله  تشير إلى حرص الطرفين على عدم الانزلاق إلى حرب شاملة. لكن هذا التوازن هشّ، ويمكن أن ينهار في أي لحظة إذا اتسعت المواجهة في غزة أو فشلت الوساطات.
 احتمال اتساع الجبهة الشمالية
أي هجوم إسرائيلي واسع على غزة قد يدفع حزب الله إلى “رفع مستوى الردّ”، خصوصًا إذا شعر بأن محور المقاومة يُستهدف وجوديًا.
في المقابل، تراهن إسرائيل على الردع عبر الضغط الميداني المحدود، مع إبقاء القرار السياسي بيد واشنطن.
وفي هذا السياق، تبرز زيارة المبعوث الأميركي توم براك إلى بيروت، الذي يسعى إلى “تجميد الجبهة اللبنانية” بالتوازي مع محاولة ترتيب وقف إطلاق نار في غزة.
زيارة براك حملت رسالة واضحة: “لبنان لن يُسمح له أن يصبح غزة الثانية.”
ثالثًا: الحسابات الأميركية والإقليمية
الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة دونالد ترامب تتعامل مع غزة ولبنان من زاوية واحدة: احتواء النفوذ الإيراني ومنع الانفجار الإقليمي.
لكن أدواتها مختلفة هذه المرة. فترامب لا يراهن على الأمم المتحدة أو الوسطاء الأوروبيين، بل على مزيج من الضغط الميداني والصفقات الاقتصادية.
الحديث عن “خطة سلام جديدة لغزة” ترافقه معلومات عن مبادرة أوسع تشمل لبنان، تقوم على “مقايضة الأمن بالاقتصاد”:
هدوء في الجنوب مقابل مشاريع طاقة ومساعدات، ووقف النار في غزة مقابل دعم دولي للإعمار.
غير أن نجاح هذه المقايضة يبقى رهينة توازنات القوى على الأرض، لا في القصور السياسية.
رابعًا: انعكاسات مباشرة على الداخل اللبناني
لبنان، المنهك سياسيًا واقتصاديًا، لا يحتمل حربًا جديدة، لكنّه أيضًا لا يملك ترف الحياد الكامل.
فكل تطور في غزة ينعكس على الشارع اللبناني، سواء عبر:
ضغط النزوح الفلسطيني الجديد نحو الحدود، توتّر الأسواق مع كل تصعيد، و تصاعد الانقسام السياسي الداخلي بين مؤيّد للمقاومة ومعارض لها.
إلى ذلك، يشكّل الجنوب مسرحًا حساسًا لا يمكن فصله عن الملف الغزّاوي. فأيّ تسوية في غزة لن تكون مكتملة من دون ضبط الجبهة الشمالية، والعكس صحيح.
ولهذا تسعى واشنطن — عبر براك — إلى مقاربة مزدوجة: غزة ولبنان كملفّين متداخلين ضمن استراتيجية أمنية واحدة.
خامسًا: توم براك – المبعوث الأميركي بين نار غزة وهشاشة لبنان
منذ تكليفه كمبعوث خاص من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تحوّل توم براك إلى العنوان الأبرز في الدبلوماسية الأميركية في المشرق. الرجل، الذي يجمع بين خلفيته الاستثمارية وصلاته العربية الواسعة، يُقدَّم في واشنطن كـ”رجل المهمّات المعقّدة” القادر على الجمع بين الاقتصاد والسياسة والأمن في مقاربة واحدة.
زيارة براك الأخيرة إلى بيروت حملت أكثر من رسالة. في الشكل، جاءت في إطار “جولة استماع”، لكن في المضمون كانت محاولة لربط مسار غزة بمسار الجنوب اللبناني، وإدخال لبنان في “الصفقة الكبرى” التي تعمل عليها إدارة ترامب في المنطقة.
فبراك يدرك أن أي تهدئة في غزة لن تصمد ما لم تُقفل جبهة الجنوب، وأن أي حرب في لبنان ستقضي على ما تبقّى من فرص لإعادة ترتيب الشرق الأوسط وفق الرؤية الأميركية الجديدة.
مقاربة براك تقوم على ثلاثة محاور أساسية:
الضبط الأمني: منع التصعيد بين حزب الله وإسرائيل بأي ثمن، ولو عبر تفاهمات ميدانية مؤقتة.
الحوافز الاقتصادية: إحياء مشاريع الطاقة والبنية التحتية في لبنان مقابل التزام بضبط الحدود وتهدئة الخطاب السياسي.
إدارة “السلام الواقعي”: أي فرض وقائع ميدانية جديدة في غزة ولبنان من دون الحاجة إلى اتفاقات سلام رسمية — تمامًا على طريقة ترامب: “صفقة بلا سلام، وواقع بلا تفاوض.”
لكن هذه المقاربة، رغم براعتها، تواجه عقبتين واضحتين:
أولاً، رفض حزب الله لأي تسوية أمنية منفصلة عن الملف الفلسطيني، ما يعني أن أي تهدئة جنوبية مشروطة بوقف النار الكامل في غزة.
ثانيًا، غياب الإجماع الداخلي اللبناني حول التعامل مع الموفد الأميركي، خصوصًا في ظلّ الشكوك بأن واشنطن تسعى لترسيخ “توازن ردع” يخدم إسرائيل أكثر مما يحمي لبنان.
في النهاية، يتحرّك توم براك على حبلٍ مشدود بين غزة وبيروت، بين دمارٍ يُراد ترميمه ومخاطر انفجار جديد.
دبلوماسيًا، يحاول أن يُقدّم نفسه كـ”صانع سلام من نوع مختلف”،
لكن واقعيًا، يعرف أن مهمّته الأخطر هي منع سقوط لبنان في مصير غزة، ومنع غزة من جرّ لبنان إلى حربٍ ثانية.
خاتمة: بين الانتظار والمجهول، غزة اليوم ليست فقط ساحة حرب، بل مرآة لواقع الشرق الأوسط بأكمله. ومصيرها سيرسم ملامح المرحلة المقبلة في لبنان وسوريا وإيران أيضًا. سواء انتهت الحرب باتفاق هش أو بانفجار جديد، فإن المنطقة تدخل مرحلة “ما بعد غزة”، حيث تتغيّر التحالفات، وتتبدّل الخرائط، وتُختبر الإرادات.
لبنان، كعادته، يقف على حافة هذا الزلزال — يأمل بالسلام، ويتهيّأ للأسوأ. ولكن الحل الأقرب للبنان مقايضة أمن وعمار واقتصاد مقابل استثمار خاصة وان امين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم دعا اميركا للاستثمار..
فتهيأوا للتفاؤل
 
                                 
                             
                                         
                                             
                                             
                                             
                                            