حسين صبرا (جريدة الأخبار)
منذ دوي الانفجار في مرفأ بيروت في الرابع من آب عام 2020، متسبّباً باستشهاد 236 شخصاً وبإصابة أكثر من 7000 شخص بجروح متفاوتة، تحوّلت قضية التحقيق القضائي في الكارثة إلى واحدة من أبرز ساحات التجاذب السياسي الدولي في لبنان.
فبدل من أن يسلك هذا الملف مساراً قانونياً يكشف المسؤوليات في واحدة من أكبر الكوارث في التاريخ الحديث، أصبح التحقيق منصة لتصفية الحسابات السياسية، وواجهة جديدة للصراع في السلطة القضائية، وحدود السيادة الوطنية، وهوية القرار اللبناني في المسائل السيادية الكبرى.
القضية، التي أُحيلت سريعاً إلى المجلس العدلي باعتبارها «تمسّ الأمن القومي»، وقعت تحت وطأة الاشتباك السياسي المباشر، وجرى تحويل الملف إلى حقل ألغام قانوني عطّل إمكان الوصول إلى حقيقة كاملة أو عدالة منجزة.
قانونياً، يُعدّ المجلس العدلي هيئة استثنائية لا تنظر سوى في الملفات التي تحيلها إليها الحكومة. ومع الإحالة، يتم تعيين محقّق عدلي بقرار من مجلس الوزراء، يُمنح صلاحيات قاضي التحقيق، بما يشمل التوقيف وإخلاء السبيل، وصولًا إلى إعداد القرار الاتهامي الذي يُحال إلى المجلس العدلي الذي تُعدّ أحكامه غير قابلة لأي شكل من أشكال الطعن.
لكن منذ تعيين القاضي طارق البيطار محقّقاً عدلياً خلفاً للقاضي فادي صوان، اتخذ الملف منحى أكثر تعقيداً. إذ قرّر البيطار توسيع دائرة الاتهامات لتشمل شخصيات سياسية وأمنية رفيعة. ولم يكتفِ البيطار بسردية «الإهمال الإداري»، بل اعتمد مبدأ «القصد الاحتمالي» في القتل، أي تحميل مسؤولين رسميين تبعات معرفتهم بوجود مادة نيترات الأمونيوم شديدة الخطورة في المرفأ، وتقصيرهم في اتخاذ أي إجراء للحدّ من مخاطرها. وقد شمل ذلك وزير المالية السابق علي حسن خليل ووزير الأشغال السابق غازي زعيتر، باعتبارهما من الجهات الوصية وظيفياً على الجمارك والمرافئ.
وبحسب ما يفيد خبراء قانوني ون، فإن توجيه الاتهام وفق مبدأ «القصد الاحتمالي» لا يعني توافر نية القتل أو اتهام المعني بالقتل العمد، بل تحميل المعنيين مسؤولية الإهمال الوظيفي الجسيم الذي أدى، بشكل غير مباشر، إلى وقوع الجريمة.
وعليه، لجأ كل من خليل وزعيتر إلى استعمال الوسائل القانونية المتاحة للدفاع عما يعتبرانه نوع من أنواع التعسف في استخدام البيطار لصلاحياته، متمسكن بحصانتهما النيابية، معتبرين أنه لا يمكن اتخاذ أي إجراء قضائي بحقهما قبل موافقة مجلس النواب. وبالتوازي، قدّما دعوى ضد القاضي البيطار تحت عنوان «الارتياب المشروع»، معتبرين أن هناك استهدافاً سياسياً لهم، ما يستوجب تنحّيه.
وبموجب القانون، تُمنع أي متابعة في التحقيق من قبل القاضي المعني إلى حين صدور قرار عن محكمة التمييز. إلا أن هذه المحكمة كانت عملياً مشلولة، بعدما خرج عدد من أعضائها إلى التقاعد من دون أن يُصار إلى تعيين بدائل لهم. وهكذا، تعطل البت بدعوى الرد، وتجمّد التحقيق إلى حين استكمال تشكيلها، وهو ما لم يتحقق لفترة طويلة.
وفي هذا السياق، أكد وزير العدل عادل نصار، في مؤتمر صحافي، أن التحقيقات مستمرة ولن تتوقف، معتبراً أنه «إذا كانت الدولة ليست قادرة على إطلاع أهالي الضحايا على الحقيقة فستكون دولة منتقصة»، وشدد على أنه «هناك قرار بإكمال الملفّ حتى النهاية، وفعّلنا العمل القضائي ويجب البتّ بكلّ الملفات العالقة، ولن نقبل بوجود عائق أمام التحقيق والمحاسبة».
مسار التحقيق: تعطيل داخلي بضوء خارجي
التحقيق القضائي أُفرغ تدريجياً من مضمونه المؤسساتي، بعدما تحوّل إلى مادة إعلامية تحشيدية، يُستخدم فيها الشارع كأداة ضغط ضد جهة واحدة، فيما جرى تجاهل مسؤوليات واضحة تقع على إدارات وأجهزة أخرى. جرى استدعاء بعض المسؤولين الأمنيين، من بينهم قائد الجيش السابق جان قهوجي وهيئة الرقابة على السفن، لكن الاستماع إليهم تم بسرعة ولم يترافق مع أي إجراء لاحق، رغم أنهم ــ وفق مصادر قانونية ــ يتحملون مسؤوليات مباشرة تفوق تلك المنسوبة إلى بعض السياسيين.
وفي هذا السياق، تؤكد المصادر القانونية لـ«الأخبار» أن «القاضي البيطار يتعرّض لضغوط دولية مباشرة لتسييس الملف وتوجيه الاتهام نحو حزب الله»، مضيفة أن «الاتهامات لم تُوجَّه بشكل شامل لجميع المسؤولين المحتملين، وهناك انتقائية واضحة في مسار الاستدعاءات». وتتابع المصادر: «دور البيطار ينتهي عند إصدار القرار الظني، بعدها ينتقل الملف إلى المجلس العدلي المؤلف من رئيس مجلس القضاء الأعلى ورؤساء غرف محكمة التمييز، وهذه المحاكمة قد تمتد سنوات طويلة». كما تستبعد المصادر إمكانية الوصول إلى تحديد هوية من أدخل شحنة النيترات أو الجهة التي وفّرت لها الحماية طوال السنوات التي سبقت الانفجار.
الضغوط الخارجية والعدالة الانتقائية
الملاحظات الأولى على المسار القضائي بدأت بالتوازي مع بداية التحقيق، حين شُكّلت حملة ضاغطة إعلامياً تطالب بتحقيق دولي، بعد انعدام الثقة بالقضاء اللبناني، وبوجود مصالح نافذة تمنع الوصول إلى الحقيقة.
بعد الحديث عن هذه الحملة، ظهر التدخل الفرنسي والأميركي والبريطاني لدعم التوصل إلى الحقائق. لكن على أرض الواقع، لم تدعم هذه التدخلات الخارجية تحقيق العدالة، بل تمثّلت بأنها مواقف مسجّلة، وتوّجت نحو توجيه الاتهامات ضد مسار سياسي محدد ويشمل شخصيات من المسار نفسه دون غيره، فضلاً عن أنه يتجاوز الوقائع القضائية ويظهر انحيازه الذي لا يحتاج لأي تحليل، بما يتلاءم مع سرديات مسبقة ظهرت في الإعلام الغربي، وخاصة الفرنسي، في الأسابيع الأولى بعد الانفجار.
تزامناً، كثُر الحديث في الأوساط السياسية المحلية عن تحويل الملف إلى المحكمة الجنائية الدولية. هذه المطالب، في ظاهرها بدت منطقية وتدل على أن الوصول إلى الحقيقة أصبح قاب قوسين أو أدنى، لكنها في المضمون تجسّد محاولة لإخراج القضية من سياقها القضائي المحلي وربطها مباشرة بأجندات دولية لها حسابات مع مكونات لبنانية دون سواها.
تقاعس دولي وإخفاء حقائق
شحنة نترات الأمونيا التي خرجت من جورجيا على متن سفينة مملوكة لشكرة قبرصية، وتحمل أوراقاً قانونية صادرة عن دول أوروبية أخرى، اصطدمت بالمطالب المحلية لإجراء تحقيقات دولية، و بالمواقف الغربية التي سجّلت دعمها في «صندوق الوعود الخارجية للبنان».
وعلى الرغم من ذلك لم توضح أي من هذه الدول حقيقة المعلومات حول هذه الشحنة وكيف ولماذا وصلت إلى المياه اللبنانية، ولا إلى التعاون الجدي مع القضاء اللبناني في تحديد الجهات التي تقف خلف إدخال هذه الكميات الضخمة من المواد المتفجّرة. ما يعني أن ما طُرح تحت عنوان «الدعم الدولي للتحقيق» لم يكن مدفوعاً بالسعي إلى الحقيقة، بل بالرغبة في توجيه الاتهامات نحو خصوم سياسيين محددين، وتوظيف القضية في الصراع الإقليمي على لبنان.
أما مسار التحقيق الذي واكبه تحشيد إعلامي واسع صوّب اتهامات واضحة نحو جهة محددة، بهدف تحشيد الرأي العام باتجاه هذا الطرف بعينه قبل انتهاء التحقيقات، أُفرغ من مضمونه المؤسساتي، وأجهز على أي فرصة لبناء ثقة جدية بمسار العدالة. وفي هذا السياق، تحوّل الضغط الشعبي من أداة لدعم المحاسبة، إلى أداة ضغط انتقائية يُستخدم فيها الشارع ضد جهة معينة، وتُغضّ فيها الأنظار عن مسؤوليات مباشرة أو إدارية تقع على أجهزة وإدارات أخرى، بعضها لا يزال في السلطة حتى اليوم.
من يمنع الحقيقة إذاً؟ الجواب لا يقتصر على جهة واحدة، بل هو نتيجة تقاطع مصالح بين نظام داخلي مأزوم، ودول كبرى تتعامل مع لبنان كساحة نفوذ، لا كدولة ذات سيادة. وفي هذا الواقع، تصبح العدالة، كما السيادة. قضية مؤجلة إلى أجل غير مسمّى.