حسين كوراني/ موقع "أوراق"
لطالما اتفقت المجتمعات البشرية منذ القدم على مفهوم مقاومة الأعداء والمعتدين، ولم تكن يومًا مثار جدل أو نقاش. والسؤال الذي كان يستوقف الأمم والشعوب والملل، منذ مئات القرون وقبل نشأة المجتمعات الإنسانية بمفهومها الحديث "الدولة" هو: إلى أي مدى يمكن للشعب مساندة الدولة في تشكيل مقاومة مسلحة للذود عن أرض الوطن والدفاع عنها؟
إذا عدنا الى العصور الأولى، كان الناس يهيمون في مختلف بقاع الأرض على شكل جماعات تنتظم بشكل أو بآخر داخل عشائر وقبائل تعيش على الصيد حول الأنهار والبحار والغابات، تجمعها أنظمة القرابة والمعتقدات وهدفها الوحيد تأمين رزقها. وفي كثير من الأحيان؛ تتعرض للغزو من بعضها البعض، فَتهبّ الجماعة المُعتدى عليها من كبيرها الى صغيرها للدفاع عن رزقها وأرضها.
هكذا بدأ مفهوم مقاومة المعتدي يتكرّس شيئًا فشيئًا، في معتقدات الناس، حتى بات مع الأيام من ضمن العادات والتقاليد والأعراف الإنسانية. إذ مع ظهور الدولة بمفهومها القديم، أخذت المجتمعات عبر التاريخ تُطور الأنظمة الاجتماعية المعقدة وتسن التشريعات والقواعد التي تنظم العلاقات القائمة فيما بينها وتجعلهم قادرين على العيش في أمن وأمان بناءً واحدًا متراصًا. وشهدت تلك المرحلة من التاريخ الإنساني قبل ظهور مدن الحضارات المبكرة قبل 2700 عام قبل الميلاد، في بلاد الرافدين ومصر وإيران والصين والهند، أشكالا متعددة ومختلفة من المقاومات الشعبية.
دارت بين هذه الحضارات القديمة الحروب، مثل سومر وعيلام في بلاد ما بين النهرين، وفراعنة مصر ضد الحيثيين، واليونانيين والرومان، وكان لها آثار كبيرة في تشكيل الدول والإمبراطوريات، وأدت إلى تطورات في العلوم والهندسة والتكتيكات العسكرية. وأنشأت من أجل ذلك الجيوش التي أوكلت إليها مهمة التسليح والدفاع ضمن استراتيجية كرّستها أنظمتها.
مع نشوء الدول الحديثة، ومع دخول القرن التاسع عشر، خاضت العديد من الدول، وخاصة الأوروبية منها مخاض كتابة الدستور، وأصبحت جميع أركان الدولة التي تمثل الإنسان والأرض والسيادة تقوم على مفاهيم وأسس احترام إرادة الشعب وحماية مكتسباته، ومنع التمييز بين مكوّن على حساب أخر، وأن تكون للدولة هيبتها والقدرة على منع أي تأثيرات خارجية إقليمية ودولية تتعلق بأمن البلاد وسلامتها.
لقد أصبح تحقيق السيادة السياسية يتأتى عبر مفهومين، السيادة الداخلية بتحقيق العدالة الاجتماعية وتقديم الخدمات وصيانة حقوق الأفراد، والسيادة الخارجية القائمة على مدى قدرة السلطات كافة (التشريعية والتنفيذية والقضائية) على صيانة استقلال البلاد ورفض التبعيات والتدخلات الخارجية وصد أي عدوان غاشم يستهدف حدود البلاد، ومهمة إقامة العلاقات مع دول العالم والهيئات والمنظمات الدولية بما يراعي مصلحة أبناء الشعب وحماية مكتسباتهم.
لكن لو نظرنا الى تحقيق مفهوم السيادة الوطنية في لبنان، لرأينا أنها منتهكة على الصّعد كافة، لا دولة تحمي مواطنيها وتحافظ على مكتسباتهم وتقدّر تضحياتهم، ولا دولة تصون الوطن وترفض التدخلات الخارجية وتصد الاعتداءات الإسرائيلية اليومية التي تشرّد وتقتل المواطنين وتدمر البيوت وتحرق الأرزاق. وأمام هذا الواقع المرير، ما الحل؟.
في الدول كافة، الشعب هو مصدر السلطات، وعندما يرى المواطن أن سلطته لا طاقة لها ولا قدرة على حمايته كما في لبنان، من واجبه الوطني أن ينتفض هو ليدافع عن نفسه وأهله، وأن يتكاتف مع أبناء بلده لدرء أي عدوان خارجي. وهذا التكاتف والتلاحم تنتج عنه مقاومة شعبية عفوية تستمد شرعيتها ليس من الميثاق الدستوري الذي كرّسها أو من سلطة عابرة أو من قصاصات ورقية مفعولها إعلاني ليس إلا، بل من الحس الوطني الذي يرفض احتلال وطنه، ومن الفطرة البشرية الطبيعية التي أتت النصوص لتجسدها، سواء في ميثاق الأمم المتحدة وحق الدفاع عن النفس وتقرير المصير ومواجهة المعتدي، أم من الأعراف والمواثيق الدولية التي بطبيعتها أقوى من المواد القانونية لأي بلد. وهكذا تصبح المقاومة من صميم الهوية الوطنية التي لا يمكن التخلي عنها.
الأمثلة كثيرة على ذلك، الفيتناميون قاوموا الاحتلال الأميركي حتى طردوه من أرضهم في نيسان 1975، والجزائريون قاوموا الاستعمار الفرنسي وقدموا مليون شهيد حتى نالوا استقلالهم في العام 1962، والمقاومة الفرنسية قاتلت الاحتلال النازي الألماني خلال الحرب العالمية الثانية حتى انتصرت عليه في أيار 1945، والمقاومة اللبنانية قاتلت الاحتلال الإسرائيلي حتى أرغمته على الانسحاب من بيروت في العام 1982 ومن الجنوب في العام 2000، ومنعته من اجتياح لبنان عامي 2006 و2024.
لكن المفارقة أن كافة الدول مجّدت مقاومتها للمحتل وجعلت من شهدائها ومقاوميها أبطالًا أسطوريين خلدتهم في كتب التاريخ. أما في لبنان هناك سلطة حاكمة مرتهنة للخارج تأتمر من أميركا وادواتها وتتآمر على مقاومتها وتريد سحب سلاحها، تحت عنوان "حصرية السلاح" في يد الدولة، ولم تحافظ على مكتسبات شعبها وتقدر تضحياته من عشرات آلاف الشهداء والجرحى والأسرى كي يبقى وطنهم سيدًا حرًّا.
نعم؛ في لبنان سلطة خانعة تعاني الضعف والوهن والانفصام في الوطنية، عاجزة عن صد أي عدوان خارجي، لا تمثل توجهات غالبية شعبها. لذلك؛ تعد المقاومة نفسها أنها اكتسبت شرعيتها من العرف الدستوري الذي تعمد بالدم والصبر على الألم والجراح؛ وهو أقوى بالطبع من أي نص دستوري، وهي لا تنتظر من سلطة عابرة أن تلغي تضحياتها التي قدّمتها على مر عشرات السنين أن مشروعيتها صارت متجذرة في الميثاق الوطني وفي الهوية الوطنية وفي الأسس الدستورية والعرفية الخاصة بلبنان، وفي وجدان الشعب وضميره.