محمد طي/جريدة الأخبار
عندما بدأ التخطيط لإقامة «لبنان الكبير» بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى، برزت قضيّة الجنوب، هل يضمّ إلى الكيان العتيد أو لا يضمّ، واستمرّت المعضلة بالنسبة إلى رؤساء لبنان حتّى اليوم. فرؤساء الجمهورية والمرشحون لرئاسة الجمهوريّة، مثل إميل إدّه وبشارة الخوري، كانوا في الثلاثينيات والأربعينيات يرون تركه أو تهجير سكّانه. ورؤساء الحكومات ومجلس النوّاب في الأربعينيات والخمسينيات وأوائل الستينيات، خير الدين الأحدب، والأمير خالد شهاب وسامي الصلح وابنه عبد الرحمن، كانوا يطاردون الثوّار الفلسطينيّين أو يبيعون الأرض للعدوّ أو يطلبون منه المساعدات.
معارضة ضمّ الجنوب إلى لبنان تمسّك بها المطالبون بإنشاء لبنان الكبير في نقاشاتهم مع الفرنسيّين منذ احتلالهم لبنان سنة 1918؛ وهي تعود إلى كون الأكثريّة الكبرى في الجنوب إسلاميّة. وهذا الخطّ تبنّاه إميل إدّه فكان يعارض ضمّ معظم الجنوب محدّدًا الدولة التي يريدها إذ تمتدّ من جنوب طرابلس حتّى صور، لكن دون سائر الجنوب ودون بعلبك والبقاع الشرقيّ ومن دون طرابلس كذلك [1].
في مواجهة المساعي التي كانت تبذل من جهات لبنانيّة لعدم ضمّ الجنوب، والتي كانت الحركة الصهيونيّة تضع ثقلها خلفها، كان الفرنسيّون يقفون بقوّة ويصرّون على ضمّ الجنوب كيلا «تجتاحه العصابات الصهيونيّة الجامحة» (Envahissantes) [2] (التي ستحتلّ فلسطين). والخشية الفرنسيّة، لا على أهل الجنوب، بل من انتقاله إلى السيطرة البريطانيّة.
إلّا أنّ المساعي لم تنتهِ بعد إقامة لبنان الكبير، فقد بُذلت مساعٍ في منتصف الثلاثينيات لتوجيه هجرة اليهود إلى لبنان واستيطانهم فيه، على إثر صعود هتلر إلى الحكم في ألمانيا والصعوبات التي وضعتها بريطانيا أمام استيعاب یهود ألمانيا النازية في أرض إسرائيل نتيجة تصاعد النضال الفلسطينيّ ضدّ الإنكليز وتآمرهم مع اليهود. حظيت الفكرة بدعم شخصيّات لبنانيّة رفيعة، من بينها الرئيس شارل دبّاس، والرئيس إميل إدّه، والبطريرك عريضة.
أبدت هذه الشخصيات استعدادها للمساعدة في هجرة اليهود إلى لبنان، وذلك انطلاقًا من نظرتهم إلى اليهود بوصفهم قوّة اقتصاديّة فعّالة من شأنها تحفيز الاقتصاد اللبنانيّ، وكان تقديرهم أنّ هجرة يهود ألمانيا إلى لبنان ستعزّز قوّتهم السياسيّة في مواجهة خصومهم. على هذه الخلفيّة، وصلت إلى الوكالة اليهوديّة في حينه اقتراحات كثيرة لشراء أراض في البقاع ومنطقتي صيدا وصور لاستيعاب يهود ألمانيا [3].
في هذا السياق، أعرب إميل إده عن استعداده للسماح بتوطين 100 ألف يهوديّ في منطقة صيدا-صور، إلّا أنّه كان يخشى من عدم موافقة المفوض السامي الفرنسيّ [4]. هذا ويذكر أنّ إدّه أيّد مشروع تقاسم المياه مع العدوّ الصهيونيّ الذي طرحه ألبرت نقّاش سنة 1938 [5].
أمّا بشارة الخوري، فتبنّى حلًّا كان قد طُرح في محادثات بين البطريرك عريضة وإميل إده من جهة، وبين وايزمن، في باريس عام 1937 [6]، والذي يقوم على أساس استبدال سكّانه؛ ففي لقاء له مع إلياهو ساسون بتاريخ 11/8/1941، بعد احتلال البريطانيّين لبنان وطرد حكومة فيشي والخشية من ضمّ لبنان إلى اتّحاد عربيّ. قال بشارة الخوري إنّه يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل.
ثمة ضرورة لإخلائه من سكّانه الشيعة الحاليّين، الذين يشكّلون خطرًا دائمًا على البلدين، والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربيّة التابعة للمفتي المقدسيّ، وإسكانه بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتّحدة. واقترح الخوري أن يقوم المشروع الاستيطانيّ اليهوديّ بإقراض البطريرك المارونيّ عريضة مبلغًا كبيرًا من المال من أجل شراء جبل عامل وتوطين الموارنة فيه ليكونوا جيرانًا لليهود ويتمكّنوا من التعاون معهم من دون عوائق [7]. ولمّا كانت الأمنية ما تزال تراود الصهاينة، ققد هيّأوا إبّان الحرب الأهليّة رئيسًا واجهة لينفّذوا من خلاله ما يستطيعون من أحلامهم.
الأحدب ومطاردة الثوّار الفلسطينيّين وطلب مساعدات
كان خير الدين الأحدب مالك إحدى الصحف، والذي سيصبح رئيسًا لوزراء لبنان، على تواصل مع حاييم كالفاريسكي، مسؤول جهاز المخابرات في الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية. وفي لقاء بينهما في بيروت في كانون الثاني 1930، سأل كالفاريسكي الأحدب عمّا يريده مقابل كتابته مقالات لمصلحة الوكالة، طلب الأحدب 400 ليرة سنويًا... في عام 1934 انتخب الأحدب نائبًا، وفي 4 كانون الثاني 1937 عُيّن رئيسًا للحكومة اللبنانية.
في 13 شباط 1938، أفاد موشيه شاريت، الذي سيكون رئيسًا لوزراء العدوّ، إدارةَ الوكالة اليهوديّة بأنّه التقى بالأحدب الذي شكا له من أنّ المعارضة ضدّه وسط المسلمين السنّة ازدادت كثيرًا وطلب منه أموالًا لتعزيز مكانته. كما كتب إليه أن حكومته ستحاول «ضمان الأمن في الأراضي اللبنانية المحاذية لمستوطنة (حانيتا)»، كما استفادت الوكالة من دور بعض رجال الأحدب في التضييق على النازحين الفلسطينيين المقيمين في بيروت ودفعهم إلى مغادرتها.
قال بشارة الخوري إنّه يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمة ضرورة لإخلائه من سكّانه الشيعة الحاليّين، الذين يشكّلون خطرًا دائمًا على البلدين، والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربيّة التابعة للمفتي المقدسيّ، وإسكانه بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتّحدة
بعد بضعة سنوات، نهاية ك1 1955، أرسل سامي الصلح (رئيس الوزراء) وسليم لحّود (كان وزيرًا للخارجيّة) موفدين موثوقين للاتّصال بإسرائيل، الكولونيل فؤاد لحود، شقيق وزير الخارجية سليم لحود، وعبد الرحمن الصلح ابن سامي الصلح.
اللقاء بين الجانبين عقد في روما بتاريخ 10 كانون أول 1955. في بداية الحديث، قال الموفدان إنّ لبنان سيكون الدولة العربيّة الثانية التي تصنع السلام مع دولة إسرائيل. وفي سياق الحديث طلب الرجلان مساعدة إسرائيليّة بالمال والسلاح [8].
بعد استقالته من رئاسة الحكومة في حزيران 1958، أقام سامي الصلح علاقة مع ممثّل لـ«الموساد» في باريس وناقش معه خطّة لإسقاط الحكم الجديد في لبنان وطلب مساعدة مالية من أجل ذلك [9].
بيع الأراضي وتشريد الفلاحين اللبنانيّين
باع الأمير خالد شهاب، الذي سيخلف خير الدين الأحدب في رئاسة وزراء لبنان، 2400 دونم في سهل الحولة للصندوق القومي اليهودي [10]. كما باع سليم علي سلام (أبو علي) حقوق ملكيّته في أرض الحولة (حوالى 57 ألف دونم) إلى «شركة تأهيل الاستيطان» اليهوديّة، وفقًا لاتّفاقية وقّعت بينهما في 28 تشرين ثاني 1934، وقد لعب دورًا مركزيًّا في المفاوضات التي استمرّت 20 عامًا، ابنه صائب، الذي وقّع، إلى جانب موشيه شاريت ويعقوب طهون ويهوشواع خنكين (من إدارة تأهيل الاستيطان)، على الاتّفاقية في 28 أيلول 1934 [11]، وقد أدى ذلك إلى تشريد 15 ألف عربيّ ممّن كانوا يعملون في الأرض، إضافة إلى 12 ألفًا كانوا يعملون في الأرض التي باعها آل سرسق وبيهم [12].
كما باع أحمد الأسعد أراضي المنارة وهونين والمساحات الممتدّة من الجبل حتّى سهل الحولة إلى شركة صهيونيّة [13]. وقد حلّ محلّ جميع العرب الذين كانوا يعملون في الأرض المبيعة، وهم عشرات الآلاف، عمّال يهود أصبحوا على تخوم الأرض في الجنوب.
تسهيل هجرة اليهود
اتّصلت مؤسّسة الهجرة اليهوديّة بلجنة الهدنة اللبنانيّة-الإسرائيليّة لتسهيل لقاء عقد في 23 شباط 1950 بين مساعد المفوّض العامّ للشرطة الإسرائيليّة والأمير فريد شهاب، مدير الأمن العام اللبنانيّ في الناقورة. خلال الاجتماع، أثار ممثّل الشرطة الإسرائيليّة عدّة اقتراحات عمليّة: وقف نقل المهاجرين اليهود إلى منطقة الحدود بواسطة المهرّبين الذين يفعلون ذلك مقابل دفعات كبيرة وبشكل غير قانونيّ، ونقل هذا الملفّ إلى لجنة اللاجئين، التي حصلت على شبه اعتراف من الحكومة اللبنانيّة، لتكون الجهة التي تدير شؤون اللاجئين اليهود في لبنان (بمن في ذلك اليهود الذين هربوا من سوريا) وستعمل بسرّيّة مطلقة وتحت رقابة السلطات اللبنانيّة.
ستهتم اللجنة بنقل اللاجئين إلى إسرائيل على أساس دفعات أسبوعيّة تحدّدها الحكومة اللبنانيّة (اقترحت إسرائيل: 150-200 شخص أسبوعيًّا). كما اقتُرح أن ترسل إسرائيل إلى لبنان بشكل سرّيّ ممثلًا لمؤسّسة الهجرة لتنظيم شؤون اللاجئين اليهود، وليكون على علاقة وثيقة مع الأمير شهاب، أو أي ممثّل آخر يتحدّد من قبله.
اليوم، هل نعيش فصلًا جديدًا من المؤامرة القديمة الجديدة لكن هذه المرّة بتجريد لبنان من قوّته بمواجهة العدوّ ليصبح رهينة في يده، ويصبح مصير الجنوبيّين وعائلاتهم وأرزاقهم على كفّ عفريت من عفاريت نتنياهو؟
مراجع:
[1] Archives départementales de la Corriѐze, papiers Jouvenel, 5J1-18, Souchier à Jouvenel, 8/7/1926. voir aussi Farѐs sassine, l’Orient littéraire, février 2019,
[2] Archives Diplomatiques, série E-Levant, Sous-Série Liban-Syrie document 125 P. 197,
[3] رؤوفين آرليخ، المتاهة اللبنانية، ترجمة محمد بدير، دون دار نشر، 2017، ص119، عن الأرشيف الصهيونيّ الرئيسيّ: 3561/S-25.
[4] المصدر نفسه ص 120.
[5] بدر الحاج، الجذور التاريخيّة للمشروع الصهيونيّ في لبنان، دار مصباح الفكر، بيروت 1982، ص66.
[6] راجع عبد الله الصالح العثيمين، قراءة في كتاب «الجذور التاريخيّة للمشروع الصهيوني في لبنان» على الموقع rsgleb.org ،article.pdp، شوهد في 15 آب 2025.
[7] العثيمين، مصدر سابق، وآرليخ، مصدر سابق، ص107 و124 عن الأرشيف الصهيوني الرئيسي 31401/S-25.
[8] المصدر نفسه ص 543.
[9] المصدر نفسه.
[10] راجع د. خالد الخالدي، رئيس قسم التاريخ والآثار في الجامعة الإسلامية في غزة، في منتديات ك النسائية تاريخ 1 ت2 2010. وعلي سعادة، فلسطين الأرض والهوية، في منشور عربي، 11 ت2 2024، ومنتدى تقريب، مذكرات سمسار صهيوني، 17 أيار 2012.
[11] حول المفاوضات السرية التي جرت خلال 20 سنة بين سليم علي سلام والحركة الصهيونية وحول بيع الامتياز العثماني على أراضي الحولة، انظر: إسحاق تسيترين، تاريخ امتياز الحولة، فصل في توطين الجليل الأعلى، جامعة بار إيلان 1987، ص. 133-151. في ما يلي: إسحاق تسيترين. انظر أيضًا الأرشيف الصهيوني الرئيسي، 25/9940-S الأرشيف الصهيوني الرئيسي، 18/1227-1. وكذلك «لاجئ نت»، بالأرقام والأسماء من باع أرض فلسطين؟، آب 2025.
[12] المراجع نفسها، الهامش 10.
[13] حسن الأمين، حل وترحال، رياض الريّس للكتب والنشر، 1999، صفحة 139.