اوراق خاصة

"السر المذاع" .. رواية تحكي سردية مجتمع يقاوم روح الانكسار والهزيمة

post-img

د. زينب الطحان/ "موقع أوراق"

قارئ رواية "السر المذاع" يجد نفسه متنقلًا بين هذا المكان وذاك المكان. يجول في أكثر من عشر مناطق جغرافية. أمام تعدّد هذه الأماكن يبرز سؤال: ما الذي يجمع بينها؟ وهل التعدّد سبّب التشتت أم أنه وحّد الأفق، وما هو هذا الأفق؟

في الجواب؛ لا بد من الإشارة إلى أن موضوع الرواية/"ثيمة الحرب" استطاع تحريك الشخصيات نحو الأمكنة المختلفة؛ وهذا أمر شائع في الرواية من هذا النوع. وهو ما يُكسب السرد إثراءً وتنوّعا في "توليفة واحدة"، وخصوصا أن "العلاقة بين الرواية والمكان هي علاقة حتمية أو علاقة وجود. إذ إن الرواية بناءٌ دراميّ متكامل يتمكّن فيه الكاتب من خلق عالم تتفاعل فيه الشخوص والأحداث والأماكن. والمكان يُمثّل مسرح الحدث".

في رواية "السر المذاع"؛ نقرأ أسماء أماكن كثيرة في فضاء مفتوح ومغلق، نذكر منها: سوق ماركالي في  البوسنة (ص١٥٤ من الرواية) ومدينة سراييفو (ص٢٦)؛ حيث تلتقي الشخصيتان الأساستيان أحمد الصحافي الفلسطيني من منطقة الجليل ورشاد الشاب اللبناني. وفي قرية أنصار في جنوب لبنان؛ تنشأ شخصية رشاد، ثم يتنقّل شابا يافعا لأجل العمل بين قرى الجنوب والعاصمة بيروت، ثم يخطط مسارا لحياته في الدفاع عن المظلومين وفي مشروع النضال على مساحة اوسع، فيقصد بلدانا في آسيا واوروبا.

في الرواية؛ يأخذَنا الرواة المتنوّعون عبر رواية في قلب رواية أخرى، وهي رواية "لغة التراب"، لنتعرّف قصة حياة رشاد وحياة أسرته في عدة فصول، فنقرأ أحداثًا تجري في: قرية أنصار الجنوبية، وطورا في بلدة العباسية والطرقات بين تلك القرى وبيروت. من جهة ثانية؛ نزورُ مع أحمد جنوب لبنان نفسه؛ حيث تجري أحداث في قرية كفركلا (ص٤١) وبوابة فاطمة. هناك يطل على معشوقته فلسطين؛ ثم نستقرّ معه في مدينة صيدا(ص٩٨) بعد أن نمرّ بمخيم صبرا وشاتيلا الذي يشهد قصة اختفاء أمُّ أحمد.

يستقرّ الجليلي مدة، في العاصمة السورية دمشق (ص ٣٤)، جوارَ مخيم اليرموك ونعبر معه "أوتستراد المزة" ومشاعره التي يرى من خلالها كل مشهد، ثم ندخل مع زوجه أحد أحياء الشام. ونمرّ في محافظة حلب ثم نذهب مع الصحافي إلى بعض محاور  المعارك التي وقعت بين الجيش السوري والمقاومة من جهة والتنظيمات المسلحة المتنوّعة من جهة ثانية.. وكل تلك المناطق المفتوحة لا تلغي الأمكنة المغلقة؛ فهناك تنوّع ما بين الشقة المُوحية بالإقامة المؤقتة والمسجد وما يعنيه من رمزية والمنزل القروي الدافئ.

لكن يطرح هنا السؤال الأساس: ما هو الأفق الجامع لكل هذه الأماكن؟

يخبرنا أحمد الباحث، في الفصل الأول من الرواية، عن هدف سفره؛ لنقل أخبار حرب الصرب على مسلمي البوسنة، وهناك يلتقي بالمهاجر رشاد بين المدافعين عن المظلومين، فيكتشف أحمد هدف رشاد المختلف، ويفتح ذلك الاكتشافُ روحَه وعقله على أسئلة وجودية وفلسفية عن فعل الإنسان وهو في مرحلة الشباب ومرحلة تفتُّح القدرات وعن نيّته القلبية.

مثالا على ذلك؛ جواب رشاد لابنه حين يسأله لماذا لا تستقر لماذا يوم في الشمال ويوم في الجنوب؟ (ص ١٩٣) فيقول؛ "إن المرء قد يُضطر إلى إجراء تكتيكي فليقم به، المهم أن لا يحيد عن المطلب الأخير".

وبعد رجوع أحمد إلى دمشق، يلفت انتباهه انتقال رشاد من مكان الى مكان بناء على غاية يريد تحقيقها وبناء على قضية كبرى يعيشها الكوكب كله، وهي قادرة على أن  تجمع بين كل من يؤمن بالقيم الإنسانية. يبدأ أحمد يلاحق أخبار رشاد من بلد إلى بلد أيضا، يحاول جمع معلومات عنه تساعده في إعداد قصة.. إنه يسعى إلى لقائه وإلى وصال دائم يشبع شغفه وشوقه إلى قيم مستقاة من الصداقة الحقة، يكتشف أجوبة لأسئلته تغير في المحصلة حياتَه وأهدافَه أيضا.

يقول أحمد(ص ١٩٧): "حقًا أريد أن أكون مثله تصدّى لجبهات العدو في انحاء العالم؛ لكنها كلها ظلت من أجل المرمى الواحد والقضية التي وجدها كونية".

عموما في هذه الرواية ثمة قضية جامعة لا يهم معها التفرق في الأمكنة؛ إنها حضور حقيقة سلب فلسطين، من كيانٍ يزرع الحروب ويخطط ليفصل الناس عنها، أو ليرضى الناس بظلم هذا الكيان الغاصب ثم يرضخون أو يطبعون معه في ثقافتهم ونمط عيشهم.

إذًا؛ الشخصية والتحوّلات التي تمرّ بها هي التي تمنع "الشتات" والتشظّي المعنوي وتقوي توحدُ الأماكن، بحسب التصوّر الواحد عند الشخصية صاحبة المبدأ. إنه مبدأ الدفاع عن المظلومين وما يتطلبه من تنحية العوائق؛ حتى وإن كانت العوائق عدوانا جانبيا يفتعله أعداء الأمة لإبعاد المدافع بأيدي غيرهم. يقول أحمد (ص ١٤٩) عن الذين عايشوا مظلومية وأخطاء وفسادا وقيودا في نظام بلدهم إنهم: "لم يعلموا أن هناك عدوّا استغلّ نقطة الضعفِ هذه في خاصرة الأمة بأسرها لتحقيق مشروع أكبر بكثير. غيرهم يشاركُ في الحروب ولكن برؤية سامية ولا تقف عند حدود".

كما في وسط أحداث الحرب والسلام في الرواية، يبرز تأثير رشاد في أحمد وإلهامه فكريا وعمليا لأجل أن تبقى في حياته أولوية القضية الفلسطينية أينما كان مكانه ومكان كفاحه.

شخصيات الرواية وتحولاتها

من أهم مواصفات الشخصية الروائية أن تكون متطورة ونامية أو متحوِّلة؛ فهل كانت هكذا في رواية السر المذاع؟

للإجابة عن هذا السؤال؛ نبدأ بالتعريف بأن "الشخصيه الرئيسة هي الشخصية التي يقوم عليها العمل الروائي وهي الشخصية الفنية التي يصطفيها القاص لتمثّل ما أراد تصويره او ما أراد التعبير عنه من أفكار وأحاسيس". وهي في رواية "السر المذاع" شخصية حقيقة، هو قائد في المقاومة الإسلامية "علاء بالبوسنة"، ولكن وردت مع التقنيات الضرورية لفن الرواية.

تتمظهر هذه الشخصية الروائية في عدة مجالات:

أولا- الاسم

لقد ورد في الرواية اسم الشخصية الأساس الذي هو رشاد، ولم تحدد الكاتبة اسم عائلته. ومما لا شك فيه أن ذلك لم يكن ليسقط سهوا؛ فالكاتبة أدرجت تصريحًا لأخي رشاد (ص ٢٤٦ من الرواية) حين خاطب فتيانًا جاءوا زوّارًا من البوسنة لقراءة الفاتحة على قبر الشهيد، فقال إن أخاه قد حمل شهرةَ البوسنة أكثر من سنوات حمله لاسم شهرته الحقيقي.

ما يدعم هذا التصريح من السياق؛ تبيّن أن الهدف الذي سعت إليه الشخصية صنعَ منها شخصيةَ رجلٍ متطوِّر ومدركٍ للطريق فهو رسم مساره في الجهاد. وبرز ذلك خلال سرد الأخت خصوصًا، ثم مشى بخطوات واثقة نحو نصرة المستضعفين والمظلومين حتى حلّ اسم المكان الذي شهد على هذا الهدف مكان الاسم الذي يلازم المرء منذ ولادته إلى مماته.

ثانيا- أثر الأحداث في تغيّر الشخصية

توالى سرد الروايةِ في قسمين: قسم قصة أحمد، ونقل برز مشاهد حياته ومنعطفاتها، وقسم لغة التراب الذي هو عبارة عن سلسلة تعريفية لحياة رشاد رواها من عاشروه وفهموه. وفي القسمين يبرز تغيّرُ الشخصية "الظلّ" أي شخصية الصحافي الباحث أحمد الجليلي. إنها مع تفرّدها باتت شخصية عاكسة لشخصية "البطل" فكيف ذلك؟

كانت لحظة اللقاء بين الرجلين هي نقطة الانطلاق في الإخبار عن الأحداث التي مرّ بها الاثنان أو الأحداث التي صنعاها. وبعد ذلك راحت تظهر نقاط التشابه ثم التأثر؛ وبعضها:

  • رشاد يعاني في قرية في جنوب لبنان تحت عدوان المحتل (ص ٥٥ حتى ٦٠) وأحمد الجليلي شاب فلسطيني يتشرّد عن بلده الأم منذ طفولته بسبب المعتدين أنفسهم.
  • رشاد الفتى يندفع فطريّا لمواجهة العدو وأحمد بعد سنين يتوقف عن فكرة السعي لتحصيل المال متحولا إلى فكرة المواجهة بكل الإمكانات (مال وعتاد وكلام).
  • رشاد الشاب ينضج فكريا ويتعرّف ثقافة تحوّلات وقوى عميقة قادرة أن تغير المجتمع الإسلامي والإنساني إلى الأفضل، هي ثقافة الثورة الإسلامية الخمينية التي أخذت على عاتقها مدّ يد العون لكل مستضعف في الأرض.. (ص ٩١ و٧٦)  فيندفع هذا الشاب الذي تفتحت أمامه آفاق قدرات روحية وعملية ليشارك في دورات ثقافية وعسكرية؛ فيطوّر قدراته واستعداداته في مسار مقارعة المحتل، وأحمد يطرح أسئلة على نفسه ثم يبحث أكثر ويجمع مقابلات عن رشاد، وذلك في محطات تجعله يستلهم من فِكر رشاد وعقيدته وأقواله وأفعاله في أسرته وفي عمله، في محيطه الصغير وفي كل البلدان التي تنقل فيها، فيتأثر أحمد وينطلق في إنشاء مشاريع تطوّر قدراته الإعلامية .
  • في نقطة اللقاء الثانية أحمد يحمل مهمة مشتركة في تنمية رشد إعلامي لمقاومين مرتبطين برشاد.وبعد ذلك رشاد يتحرّك بين ساحات المعارك ولا يتوقف بسبب جراحه، بل يوافق على تكاليف برتبٍ أعلى، وأحمد يقتنع بضرورة التصدي لمنصب يلزمه بنشر الحقيقة غير مكترث بتهديد الإعلاميين( ص ١٤٩).

ثالثا- وصول الشخصيتين إلى الوحدة في خط التصدي للمحتل

صحيح أن احمد هو من أب فلسطيني وأم لبنانية لكنه لم يكن قد رآها كثيرا. لكن الوحدة التي رآها أحمد ولمسها كانت متجسدة أمامه في رشاد؛ فرشاد كان  من مذهب ديني آخر؛ ولكنه تصرف بأفعال وردود أفعال تلغي الحواجز المفتعلة والمضللة عن الهدف.

لقد رأى احمد ذلك في نظرة رشاد إلى الأمور وإلى العدو المشترك، وفي دافعه لإبداع مشاريع  تؤسس للعمل من أجل قضية تحرير فلسطين ومقدساتها. رأى أحمد ذلك في أعمال رشاد الذي هجر راحته لأجل التصدي للظالم أينما كان.  رأى أحمد ذلك في تحركات رشاد التي تتجلى فيها وحدة القلوب على أنها سبيل واضح لبناء قدرة المقاومة سواء في لبنان أو فلسطين. وهو بعد ذلك؛ يجد نفسه ملزما بالمشاركة في حماية هذه المقاومة في إجراء فرضته مرحلة انتشار جماعات المسلحة وتنظيمات في سوريا (ص ١٢١).

لقد هدفت تلك لإسقاط نظام رأت فساده في الداخل، ولم تكترث بما ما شهد له به التاريخ، بأنه لم يوقع ولم يطبّع مع الكيان الغاصب الصهيوني. وفي كل الأحوال؛ فكل ما رآه أحمد دفعه للتصديق بأن الوحدة قادرة على الحل، كما دفعه لتحطيم الحواجز واكتشاف الهموم المشتركة بين المظلومين والقيم الإنسانية التوحيدية، وهذا ما أوضحه بدقة (ص١٢٤ ).

ختاما

لو دقّقنا في خَطّين؛ هما خط حياة رشاد وخط حياة أحمد، لوجدنا كلا منهما خطا تصاعديا في التغير وصناعة الحدث الذي يصب في اتجاه الهدف. ولوجدنا نقاط التطور في شخصية رشاد هي نفسها نقاط التغير في حياة أحمد الذي ظهر- بقليل من التحليل- كأنه مرآة تعكس تأثير الشخص المتحمل للمسؤولية في كيان شخص استطاع أن يغيره ولو مع قلة الوصال، حتى كادت محطات حياة أحمد  تتماهى مع حياة صديقه أو مقتداه رشاد. برز الإعجاب ثم التمثل من خلال صور  كثيرة منها:

  • علاقة رشاد بوالديه وبأخيه وأخته (في اقسام لغة التراب ص ٤٧ و٨٨ و٧٨ و١٧٦).
  • ظروف زواجه الذي لم يمنعه من المسؤولية العامة.
  • دور أم أبنائه في الجهاد والتحمل (ص١٣٤).
  • تربية أبنائه، توجيه مرؤوسيه في العمل والجهاد(ص١٦٠ و١٨٨)، أخوّته مع اصدقائه ومساعدته لهم(ص ١٠٨ و٢٠٤).
  • تأهيله للشباب وتنشيطه لدورهم، تحمله لأعباء التكليف مهما كان درجته الوظيفية، تجاوزه لعذابات الجراح، تحلّيه بصفات إنسانية غزيرة، الحنان على الأيتام ومعاونة المحتاج والشجاعة ووضوح الرؤية كما يشرح سياق الرواية في وصف متنوّع وفي عدة وحداتٍ سردية.

  عموما، لعل معالم تطورات الشخصية التي حاولت الكاتبة أن توصلها لنا، ستظهر أكثر إذا ما أشبعنا الرواية قراءة متكررة ونقاشًا وتحليلا.

-------------

١- رواية السر المذاع صادرة عن دار الحضارة الاسلامية(عن مبادرة أنوار بيننا) للكاتبة نجوى الموسوي 2024.

٢- شربيط أحمد شربيط،البنيه الشخصيه في القصه الجزائريه ص. ٤٨، دار القصبة للنشر الجزائر، ٢٠٠٩م

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد