اوراق خاصة

بين "أدب الشواهد"..وأضرحة الشهداء

post-img

ديانا صادق إسماعيل/ابنة الشهيد صادق إسماعيل هاشم

مع انتهاء الشهر العاشر لرحيلك وبدء الشهر الحادي عشر؛ يا صادقنا العزيز

أود أن أخبرك عنا :

و "نا"، هنا، لا تعنينا فقط نحن "العائلة"..بل نحن العائلات التي فقدت أعزّتها في الحرب، وجمعتنا "الروضة".

نلتقي حول شواهد أضرحة أحبتنا، وقد نسجت الأيام بيننا روابط متينة جدًا لصدق ما اختبرناه معًا.

 أحيانا أتساءل: هل يمكن أن يولد جنس أدبي جديد على غرار "أدب المهجر" أو "أدب الرحلات" أو "أدب السجون"، بعد كل ما جرى معنا ويجري علينا...؟

إذا كان ما يحتاج إليه الجنس الأدبي الجديد كي يولد هو تجربة شعورية عائمة عارمة تطغى على أفراد جماعة من مرهفي الحس، وتجمعهم ظروف متقاربة، فهذا قطعا هو "نحن" ...

.. وربما يطلق عليه اسم "أدب الشواهد" أو "أدب الروضات".. لا أدري ..!

لكن حتما ليس "أدب الجبّانة"، إذ إنّ الكلمة وقعها ثقيل على السمع، لفظًا ومضمونًا..!

السواد الأعظم من الناس يتهافتون إلى أضرحة أحبّتهم، مع انخفاض حرارة الشمس، في هذا الصيف الأول على عروجكم، لتبلغ ذروة الزائرين عند غروب الخميس- ليلة الجمعة.

إلا أنّني، وجمع من الأهل، نقصد أحبّتنا مع الفجر نتسلّل مع أوائل خيوط الشمس ليبدأ نهارنا هناك ..

"بدي أقعد مع ابني لحالنا عرواق"؛.. تبوح أم عليّ، وهي تحضن مصحفها بيد، وترتّب منديلها بالأخرى.

محظوظون نحن في أن يكون "صادق" عند المدخل يستقبل الجميع ببسمته الأبدية المشعّة، ويبادله أحبّته بالبسملة، وبضع آيات وكثير من الترحّم...

كل صباح تسبقني "نهال" لتلاوة جزء من الذكر الحكيم، هي دومًا أول الوافدين إلى الروضة أو هكذا كنت أظنّ؛ إلى أن بدأت ألاحظ يومًا بعد يوم رطوبة أحواض الزرع..

لم يكن ندى الصباح الذي يبلّل البتلات، ويروي الشتلات والزهر، بل كان "شيراز".. .  !

لقد لمحته ذات صباح ينهي تقليم "العطراية"، ويروي آخر حوض ورود.. هو لطيف كالنسمة؛ إذا لم تتقصّد الملاحظة لن تلحظ وجوده.

"شيراز" الذي شهد عشرات، حتى مئات الجنازات، لم يصبه الخدر، ولم تلوّثه عدم المبالاة..

بقي حيّا متفاعلا؛ يجود على أهل القادمين الجدد ببسمة حانية وعينين مطمئنتين، وكأنه يقول لهم: "لا تقلقوا ، القبر وساكنه في الحفظ و الصون".

قبل بدء حديثي الصباحي مع "صادق"؛ أجد حبات حلوى الكراميل على أعلى شاهد القبر؛ يتركها لنا شيخ جليل، لحيته طويلة بيضاء سموح الوجه، يدور على الشهداء كلهم..

هذا الشيخ الجليل لا يعلم أن هذا "البون بون" كان المفضل لدى والدي، ولم يخلُ جيبه يوما منها، ولا يعلم أنني في هذه الأيام اشتاق شوقين: شوقي لزوجي وشوقي الأكبر لأبي.. فتكون الحلوى بالنسبة إليّ بمثابة هدية يوميّة  "سكريّة" من السماء .

ذات صباح؛ قال لي الرجل الجليل: "هذه الصورة.. طلب مني الحاج صادق أن نتصورها معًا..".

دقّقت النظر في شاشة هاتفه، هذه السترة كان يرتديها "صادق" في آخر أيامه، خلال الحرب.

إذًا هذا الرجل الجليل كان، أيضًا، في ذلك الوقت في مدينة النبطية جنوب بلادي ..!

قبل أن استوضح منه أكثر، بادرني بالقول: "بعد ما تصورنا؛ قال لي الحاج صادق لما تغسّلني غسّلني شوي .. شوي..".

تحجّر الدمع في مقلتي!

 مشى الرجل؛ والذهول يخيّم عليّ.. !

إذًا أنت يا سيدي الكريم المسؤول عن المغسل؟!..

في الأدب الذي قرأناه، حين كنا صغارًا، لطالما تشكّلت صورة محددة لحفّار القبور في أذهاننا، رجلٌ قاسي الملامح بارد المشاعر.. أما من يغسل الأموات لم يكن في بالي أي صورة ذهنية له، كنت أصلاً أخاف من فكرة تخيّله حتى.. كم كنا سذّجًا حين كنا صغارًا..

 ...

اليوم؛ كلما صادفت حفّار القبور و حارس الروضة "شيراز" أسعد لرؤيته، أما الحاج أحمد الودود الوقور الذي يغسّل الموتى يذكّرني بأبي، وأنا أحبُّ لقاءه كل صباح.

هذا المكان عجيب هو أقرب بقعة في مدينتنا إلى السماء ...

ونحن رواد الصباح الباكر نعيش حالًا برزخية جميلة مع كل إشراقة شمس.. ثم ينطلق كلٌ منا في اتجاه نبتغي فيه فضل الله، وكأننا سنعيش أبدا...

الفاتحة المباركة لكلّ من مضى في هذا الطريق..

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد