اوراق مختارة

الشيخ أكرم بركات... عن صناعة الوعي التاريخي في لحظات التحوّل

post-img

علي شقير/جريدة الأخبار

يشير فلاسفةُ التاريخ، ومنهم أرنولد توينبي، عند مقاربتهم الأزماتِ والتحدّياتِ التي تُصيب الجماعات، إلى أنّ بابَ السؤال يُفتح على مِصراعَيْه بعد أن تتلقّى الفواعلُ الاجتماعيةُ والسياسيةُ ضربةً قاسيةً تمسّ مراكزَ ثِقَلٍ نفسيّ–اجتماعي في حين يُغلَق بابُ السؤال والنقد بعد تحقيق أيّ انتصارٍ أو إنجازٍ معيّن، وهو ما يقع كثيرًا في منطقتنا.

من زاويةٍ أخرى، يشير علمُ النفس الاجتماعي إلى أنّ فهمَ العقلِ الجمعي لأيّ جماعةٍ أو مجتمعٍ أو دولةٍ أو حتى حضارةٍ ما يمكن مقاربتُه عبر تتبُّع مرحلةِ التحوّل والانتقال لديها؛ أي تلك الفترات الزمنية الحرِجة التي يُعاد فيها تشكيلُ أنماطِها المستقرّة، سواء على المستوى الهُويّة أو السلطة أو المعنى. في هذه المرحلة تحديداً، حيث تبرز الأسئلةُ والنقدُ، يُصارُ إلى إعادةِ تشكيلِ العقلِ الجمعي وروحِ الجماعة عبر الإجابة على سَيْلِ الأسئلة والانتقادات المتولّدة، وهي دليلُ عافيةٍ وحيويّة. وهنا بالذات يبرزُ دورُ العلماء والمفكّرين، أو ما يُسمّى «النواةَ الصلبةَ للمجتمع».

في هذه اللحظة، لحظةِ التحوّل والانتقال، ينهضُ العلماءُ والمفكّرون بأعقدِ مهمّةٍ، وهي إعادةُ إنتاجِ المفاهيمِ والنُّظمِ الفكريّة وتثبيتُ الهُويّةِ الجماعية انسجاماً مع التحدّيات والمسؤوليّات المستجدّة لدى هذه الجماعة.

من هنا يأتي كتابُ «المقاومة الإسلامية: مباني السرديّة الثقافية من الوصيّة الإلهيّة إلى معركةِ أُولي البأس» لمؤلّفه الشيخِ أكرم بركات، في سياقِ الإجابة على كثيرٍ من الإشكالات والأسئلة التي طُرحت وما تزال تُطرَح في الفضاءَين السياسي والثقافي، خصوصاً بعد معركة أولي البأس.

 يقعُ الكتاب في أربعةِ أبوابٍ أساسية، مُقسَّماً وفق التسلسل الزمني. في الباب الأوّل يتناول المؤلِّفُ القضيّةَ الثقافيةَ المركزيّة من النبيّ آدم إلى غيبةِ الإمام المهدي، حيث بحثَ في حركةِ أنبياءِ أُولي العزم وسعيِهم إلى «إقامةِ الدِّين على قاعدةِ الوحدةِ الاجتماعية للمجتمعِ الإيماني»، ثمّ في غائيّةِ «التنزيلِ والتأويلِ» اللذَيْنِ عملَ النبيّ محمد والأئمةُ على ترسيخِهما.

في البابَيْن الثاني والثالث، يتناول المؤلِّفُ قضيّةَ التمهيد من الغيبة إلى قيامِ الإمام الخميني، ثمّ قضيّةَ التمهيد في قيام الإمام الخميني؛ إذ إنّ ما جاء به الإمامُ الخميني من طرحٍ في ولايةِ الفقيه وتشييدِ الحكومة الإسلامية شكّل مفصلًا أساسيّاً في «العمل على توجيهِ الذهنيّةِ العامّة للشيعة للتمهيد الاجتماعيّ والسياسيّ للإمام المهديّ عج». لقد كانت لحظةُ التحوّل والانتقال التي قادها الإمامُ الخمينيّ قدس سرّه قائمةً، بحسبِ الشيخ أكرم، على تراثٍ حوزويّ ممتدٍّ من بدايةِ غَيبة الإمام إلى زمانِنا، حيث شكّل أرضيّةً معرفيّةً ودينيّةً لطرح الإمام؛ إضافةً إلى عاملٍ ثانٍ أساسيّ يتمثّل في الأحداثِ السياسيّة والثقافيّة المتراكمة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين.

في الباب الأخير، المعنونِ بـ «قضيّةِ التمهيد بالمقاومة الإسلامية»، يُفصِّل الشيخُ المسارَ التراكميّ للمقاوماتِ الشيعيّة في تاريخ لبنان، وهو المسارُ الذي أفضى إلى تأسيسِ المقاومة الإسلامية في لبنان استجابةً طبيعيّةً للاحتلال الإسرائيلي عام 1982. ويوضّح أنّ دوافعَ المقاومة الإسلامية قامت على ثلاثيّة: الدافعِ العقديّ، والإنسانيّ، والوطنيّ؛ وقد سعت إلى تحمّل تكليفِها بتولّي اللهِ والقائدِ الإلهي، والعملِ على إعدادِ القوّة، والصبرِ والوَحدة.

يمكن القولُ إنّ هذا الكتاب، الساعي إلى توضيحِ مباني السرديّة الثقافيّة، يبدو ضرورةً في وقتٍ يسعى فيه خصومُ المقاومة وأعداؤها إلى تشويهِ تاريخ هذه التجربة؛ إذ إنّ الأممَ والجماعاتِ التي يتعزّز لديها مفهومُ الثأر إنما تستندُ إلى عمقِها التاريخيّ الضارب وإلى مشروعِها المستقبليّ الممتدّ. ولذا يبرزُ، في لحظات التحوّل، العملُ على قطعِ الجماعةِ عن تاريخِها وإعادةِ تعريفِ هُويّتها ومشروعِها.

يمثّلُ هذا العملُ حجرَ أساسٍ في صناعةِ الوعيِ التاريخيّ الذي يُخاطبُ حاضرَنا والأجيالَ القادمة، مؤكِّداً أنّنا نمتلكُ هُويّةً ضاربةً في عمقِ التاريخ ومشروعاً لا ينتهي إلّا بإقامةِ دولةِ صاحبِ العصرِ والزمان.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد