إبراهيم الأمين (الأخبار)
من غير المنطقي الافتراض بأن أميركا تعمل في خدمة إسرائيل؛ فالصحيح والمنطقي هو العكس. غير أن ذلك لا ينفي وجود مستوى آخر من التخادم بينهما، خصوصاً في لحظات الارتباك التي تطال كليهما معاً. وفقاً لهذا المنطق، تبدو الإدارة الأميركية، وتحديداً أقسامها المعنية بالشرق الأوسط، في حالة ارتباك ملحوظ.
فالمطّلعون من واشنطن يشيرون إلى تقدّم واضح للفريق المؤيد لإسرائيل، بما يجعل التحديات التي تواجه إدارة الرئيس دونالد ترامب تتجاوز حدود «الدعم الثابت» لإسرائيل، نحو مستوى أعمق يتمثل في انخراط أميركا المباشر في مواجهة خصوم تل أبيب في المنطقة.
والمقصود هنا ليس مجرّد مساندة إسرائيل في حروبها التقليدية، بل تبنّي السياسات الإسرائيلية الراهنة كما هي، سواء في فلسطين أو سوريا أو لبنان، وصولاً إلى إيران، مع نقاشات مفتوحة أيضاً عن الدور المطلوب في العراق. أمّا الملف الأكثر حساسية من وجهة نظر تل أبيب، فيتعلق باليمن، حيث ترى إسرائيل أن من الضروري منحها كامل الهوامش والدعم لتوسيع عملياتها ضد «أنصار الله»، على أن يجري ذلك بالتعاون الوثيق، ليس فقط مع القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، بل أيضاً مع دول الخليج، وفي مقدمتها السعودية والإمارات العربية المتحدة.
سوريا ولبنان
في ما يخص الملفين السوري واللبناني، كانت النقاشات السابقة قد أفضت إلى تحوّل في الموقف الأميركي تجاه القيادة السورية الجديدة، ممثلةً بالرئيس أحمد الشرع وفريقه.
هذا التحوّل تسارع من مرحلة الاعتراف الرسمي بهذه القيادة إلى الانخراط العملي وصولاً إلى توفير الدعم المطلوب لها. وعندما استجاب الرئيس دونالد ترامب لمساعي الوساطة، كان قد أنجز بالفعل صفقة مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان، قبل أن يتوجّه إلى السعودية ويعقد اجتماعاً مشتركاً مع الشرع وولي العهد الأمير محمد بن سلمان (حضر إردوغان اللقاء طرفاً رابعاً). هذه الصفقة، وإن بدت مقبولة لدى صقور الجمهوريين في واشنطن، إلا أنها لم تحظَ بالترحيب نفسه لدى أنصار إسرائيل، إذ إن تل أبيب لا تكتفي بمثل هذه التسويات، بل تسعى إلى إعادة صياغة الإستراتيجيات الإقليمية برمّتها في ضوء الحروب المشتعلة مع غزة ولبنان وإيران.
توم براك، الذي أوكلت إليه أساساً مهمة تنظيم العلاقات بين ترامب وإردوغان، وجد نفسه فجأة أمام تجربة استثنائية. إذ اضطر إلى التوسع في دراسة المشهد الأوروبي برمته، قبل أن يُطرح الملف السوري باعتباره امتداداً مباشراً للملف التركي، ثم أُضيف إليه الملف اللبناني، بوصفه تابعاً بدوره للملف السوري التابع أساساً لملف تركيا.
غير أن الإشكالية الحقيقية ظهرت عندما واجه الأميركيون الرؤية الإسرائيلية الرافضة لأي تحالف مع القيادة السورية الجديدة. وقد دفعت تل أبيب نحو مقاربة مختلفة تماماً تقوم على مبدأ «الإخضاع»، معتبرة أن ما حققته في مواجهة حزب الله وحماس شكّل المدخل الأساسي لإسقاط حكم بشار الأسد.
وبحسب الرواية الإسرائيلية، فإنها وحدها اليوم الطرف القادر على التدخل الفاعل في سوريا، بعدما انتفى أي دور لإيران أو حزب الله أو غيرهما. لذلك، وبخلاف ما قد يبدو في الظاهر، اعتمدت إسرائيل إستراتيجية تجاه حكم أحمد الشرع قائمة على نزع أي حق بالاختيار منه، وحصر موقعه في الالتزام التام بإرادة التحالف الأميركي - الإسرائيلي.
في سوريا، سرعان ما أدرك الأميركيون أن الشرع لا يمتلك من القوة ما يتيح له الإمساك بقرار موحّد على امتداد البلاد. وقد ساعد البريطانيون في رسم المشهد الميداني عبر توضيح خريطة توزّع الفصائل المسلحة، فيما قدّم الأتراك قراءاتهم الخاصة لواقع الإدارة العامة داخل سوريا. في الوقت نفسه، كانت أجهزة الاستخبارات الدولية ترسل وفوداً متعاقبة إلى دمشق، معتمدةً مراكز انطلاق في لبنان والأردن وتركيا. غير أن الخلاصات التي خرجت بها تلك الوفود لم تكن مشجّعة.
المشكلة مع الأكراد
منذ اليوم الأول لبدء مهمته في سوريا، سمع براك من الشرع وفريقه مطلبين أساسيين: أولاً، توسيع نطاق سيطرتهم على كامل الأراضي السورية، وثانياً، تأمين الدعم المالي للمؤسسات الرسمية ثم للقطاع الخاص.
غير أن برّاك اعتمد مقاربة مختلفة، واضعاً إستراتيجية ترتكز على اتجاهات عدة أساسها السعي إلى تحقيق نتائج عملية مع الأكراد عبر فتح قنوات مباشرة مع قيادة «قسد».
ففي السابق، حين واجه الشرع وفريقه تحدّي «تمرد الساحل»، لم يمتلك من آليات معالجة سوى ما يتقن القيام به، أي اللجوء إلى ارتكاب مجازر مروّعة، وهو ما كاد يطيح بأي فرصة أمامه للعبور إلى مرحلة سياسية جديدة. عندها، تدخّلت واشنطن وضغطت على قيادة قوات سوريا الديموقراطية لإيفاد وفد رسمي إلى دمشق برئاسة قائدها مظلوم عبدي.
وخلال المفاوضات، لم يظهر الأميركيون في الصورة علناً، لكنهم كانوا حاضرين في الغرفة المجاورة، قبل أن يتولّوا بأنفسهم صياغة اتفاق وُقّع لاحقاً بين الشرع وعبدي.
وبعد عودة الأخير إلى مقره، وجد نفسه أمام نقاش مطوّل حول جدوى الاتفاق الذي وقّعه في دمشق، خصوصاً أن تقديرات الفريق السياسي المحيط به هو أن أي تعهّد يصدر عن الشرع أو فريقه لا يمكن الركون إليه. وهذا ما دفع القيادة الكردية إلى طلب عقد اجتماعات عاجلة مع الأميركيين، ولا سيما مع القيادات العسكرية والأمنية التي تشرف على إدارة العلاقة المباشرة معهم.
الأكراد ربطوا الاندماج العسكري بإقرار حقوقهم الذاتية ويعتبرون أن الاتفاق مع دمشق يتم عبر رجال البنتاغون لا عن طريق غيرهم
مع مرور الوقت، كان الشرع يعتقد بأن الأمور ستسير وفقاً لما خطط له، ولا سيما بعدما سمع دعماً مباشراً من براك نفسه، وهو ما أكده له أيضاً المسؤولون الأتراك. غير أن الخلافات سرعان ما عادت إلى الواجهة، وبلغت ذروتها الأولى عندما طلبت «قسد» من الشرع أن يفرض على الفصائل المسلحة في عفرين ومناطق أخرى في شمال وغرب حلب وإدلب إخلاء منازل الأكراد، وحلّ التجمعات اللامركزية.
فجاء رد الشرع بأن تلك المنازل تقطنها عائلات سورية نازحة من شرق الفرات، وأنه عندما تسلّم قوات «قسد» الدولة مقاليد الأمور في مناطقها، سيُعمل على إعادة الأكراد إلى منازلهم. علماً أن التوترات بقيت على حدّتها بين مختلف الأطراف، حتى داخل مناطق سيطرة «قسد» نفسها، حيث عبّرت العشائر العربية عن رفضها المستمر لما اعتبرته ابتزازاً كردياً.
وزاد الوضع تعقيداً حين أصرت «قسد» على إعداد جدول زمني واضح للخطوات التي يفترض بالشرع إقرارها، لمنح الأكراد «حق الحفاظ على الخصوصية وضمانها في مجالات الإدارة والتعليم والأمن المحلي». وكان عبدي واضحاً بأن هذه الخطوات يجب أن تسبق أي عودة للقوات العسكرية السورية.
غير أن ما طلبه عبدي بدا وكأنه انقلاب على الاتفاق الموقّع مع الشرع، ما فجّر الخلاف بينهما. وفي الاجتماع الأخير في دمشق، رفع الأميركيون صوتهم عالياً في وجه أعضاء الوفد الكردي، الذين غادروا الاجتماع منزعجين، قبل أن يبلغوا براك لاحقاً رفضهم الاستمرار في هذا النوع من المباحثات.
لاحقاً، أبلغ الأكراد براك بأن موقفهم كان منسّقاً أساساً مع وزارة الدفاع الأميركية. وأوضح عبدي، لمن يعنيه الأمر، أن علاقته مع الولايات المتحدة تمرّ عبر البنتاغون مباشرة، وليس حتى عبر القيادة العسكرية الأميركية في المنطقة، وأن فرق وكالة الاستخبارات المركزية العاملة في المنطقة على علم كامل بالتفاصيل. وأضاف بوضوح أكبر بأن مواقفه في اجتماع دمشق كانت منسّقة مسبقاً مع هذه الجهات.
وفيما بعد، شنّ «اللوبي الكردي» في الولايات المتحدة حملة ضد براك الذي أدرك عندها أنه يواجه مأزقاً جدياً. ونُقل عنه قوله في جلسات مغلقة إن إسرائيل هي الداعم الفعلي للأكراد، وليس البنتاغون وحده.
كارثة السويداء
لم يمر وقت طويل حتى برز ملف السويداء إلى العلن، ما أظهر بوضوح حجم التضارب في إدارة الملف من قبل الجانب الأميركي. ومع مرور الأيام، أصبح جلياً للجميع أن الشرع وفريقه بادرا في ملف السويداء بناءً على تقدير سياسي خاطئ، رغم تأكيدهم بأن كل خطوة كانت منسقة مع برّاك بالكامل.
في هذا السياق، نقلت رواية صادرة عن مرجع أمني رفيع في الإدارة السورية ما حدث. وأبلغ هذا المرجع جهات خارجية بأن أحداث السويداء كان نتيجة تراكمات عدة.
وأوضح أن الخلافات في المحافظة بين أبناء الطائفة الدرزية والبدو ليست جديدة، وأن النظام السابق كان يعتمد على القوة لمعالجتها.
أما الإدارة الجديدة، فقد فكرت في احتواء الوضع عبر اتصالات وعلاقات مع الطرفين، لكن الأمور تطورت إلى حد، بحسب فريق الشرع، يهدد الاستقرار في المنطقة الجنوبية برمتها. وفي الوقت نفسه، أبلغ الشرع براك وآخرين أنه لا يحتمل أي نوع من الانفصال الإداري أو الأمني، وأن ما يقوم به الشيخ حكمت الهجري يُعدّ تهديداً للسلطة المركزية في دمشق.
لكن المسؤول الأمني السوري الرفيع أقر بأنه، مع بدء العمليات العسكرية، بادر مساعدوه أولاً إلى التواصل مع الأميركيين، ثم مع الإسرائيليين، واتُفق على آلية تسمح بدخول وحدات عسكرية تابعة لوزارة الدفاع السورية إلى المنطقة، لقمع الاضطرابات ثم الانسحاب، تاركة إدارة الوضع لمجموعات الأمن العام والشرطة المحلية. وبحسب زعمه، فقد حصلت إدارته على موافقة من الجانبين الأميركي والإسرائيلي، وبناءً على ذلك تم التحرك، بالتعاون مع فصائل محلية من الدروز يقودها وجهاء من آل البلعوص وعبد الباقي.
ويضيف المسؤول أن المفاجأة بدأت بعد وصول قوات دمشق إلى السويداء. فقد ارتكب بعض المسلحين جرائم متعددة، لكن اتصالات سريعة أسفرت عن اتفاق لوقف إطلاق النار، وافق عليه الهجري، وربما كان ذلك تحت ضغط الهجوم السريع لقوات دمشق. غير أن المفاجآت لم تتوقف عند هذا الحد.
يروي المسؤول الأمني السوري، بمزيج من الصدمة والخيبة، أن الجانب الإسرائيلي قرر الانقلاب على الاتفاق بشكل مفاجئ، إذ شنت طائرات الاحتلال ضربات مباشرة على أرتال عسكرية ونقاط تجمّع على دفعتين، ما أسفر عن سقوط نحو 70 قتيلاً وإصابة المئات. وبعد دقائق معدودة، أعلن الهجري انسحابه من الاتفاق، مؤكّداً أنه أُجبر على السير به. عقب ذلك، انطلقت عملية عسكرية مضادة، نجح فيها أنصار الهجري في إبعاد الوحدات العسكرية الرسمية عن أحياء واسعة في المدينة، بينما واصلت إسرائيل استهداف مسلحي الشرع بالقصف، وأرسلت رسائل مباشرة إلى دمشق تطالب بسحب كامل قواتها من المنطقة.