شفيق طبارة/ جريدة الأخبار
في عالم السينما، هناك من يروي القصص، وهناك من يصنع التجارب. ينتمي المخرج الكوري الجنوبي بارك تشان ــ ووك إلى الفئة الثانية بلا منازع.
أفلامه ليست مجرد سرد بصري، بل طقوس حسّية، تجرّ المشاهد إلى عوالم متناقضة من الجمال والدم، من الموسيقى والخراب، من الجنة والجحيم.
قصة واقعية وراهنة
بعد فيلمه الأخير العظيم «قرار الرحيل» (2022)، الذي يشكّل الجزء الثالث من «ثلاثية الانتقام» التي بدأها مع «التعاطف مع السيد المنتقم» (2002)، و«سيدة الانتقام» (2005)، وبعد سنوات من تحفته «أولد بوي» (2003)، يعود تشانــ ووك بفيلم جديد بعنوان «لا خيار آخر» (No Other Choice) يعرض ضمن المسابقة الرسمية لـ «مهرجان البندقية السينمائي» المقام حاليًا.
منذ اللحظة الأولى، يعرف تشان ــ ووك كيف يهيّئ المتفرج. لا يهم أن تكون البداية عظيمة أو مبتكرة. المهم أن تكون مشحونة بالوعد. جديده قصة بعيدة من الانتقام، ولكن لها علاقة بواقعنا العالمي، وانخفاض عدد العاملين. هذا هو جزء من المجتمع الرأسمالي الذي نعيش فيه. قصة الفيلم ليست مألوفة، مان ــ سو (لي بيونغ ــ هان)، خبير مخضرم في صناعة الورق، بخبرة تمتد إلى أكثر من 25 عامًا، يعيش حياة مليئة بالرضى، إلى درجة أنّه يستطيع أن يقول بصدق: «لقد نلت كلّ شيء». تمرّ أيامه بسعادة وهدوء في بيته الكبير محاطًا بزوجته ميري (سون يي ــ جين)، وطفليهما، وكلبين وفيين، إلى أن يتلقّى ذات يوم خبرًا صادمًا من شركته: لقد فُصل من العمل.
وقع الخبر عليه كضربة فأس. وبينما يتخبط في الصدمة، يقطع وعدًا: سيجد وظيفة جديدة في ثلاثة أشهر، من أجل أسرته. لكن رغم عزيمته الصلبة، تمتد الأشهر إلى عام كامل من مقابلات العمل الفاشلة وخيبات الأمل المتكررة.
في لحظة يأس، يتخذ قرارًا جريئًا مقتنعًا بأن وظيفة جديدة تناسب طموحاته باتت قاب قوسين أو أدنى: القضاء على جميع منافسيه المحتملين. يبدأ بتصفيتهم واحدًا تلو الآخر!
شخصيات كاريكاتورية ساخرة
حين يجلس المشاهد لمشاهدة فيلم إثارة، لا يطلب صبرًا ولا تأملًا، بل يريد أن يُخطف. وهنا، يبرع تشان ــ ووك في التمهيد: يقطع المشاهد بطريقة حادة، يترك المتلقي مذهولًا، بينما يداعب حواسه بلحن ناعم، وفجأة، يعميه بصورة مثيرة للفضول، كأنّها صفعة توقظه من سباته.
يتمتّع ووك بقدرة على قول الكثير في صور قليلة رغم طول مدة الفيلم (يزيد على ساعتين)، وتجهيز العناصر المرئية والسمعية بطريقة تسمح بسرد قصة قبل أن تُقال، وهذا ما يجعل «لا خيار آخر» لا يُنسى. لا شيء فيه اصطناعيًا. كل شيء مثقل بالحقيقة، ولو كانت دموية. شخصيات الفيلم ذات نكهة كاريكاتورية، ساخرة، والقصة مغلفة بعنف سلس.
العنف هنا لا يأتي كصدمة فجّة، بل كرقصة على أنغام الموسيقى، مثل مشهد قتل المنافس الأول العظيم. هذا التناقض بين الفكاهة السوداء والوحشية الهادئة يمنح الفيلم طابعًا فريدًا.
قوة بصرية ساحقة
تتجلّى هذه الجمالية التي لا تقبل المنافسة. قوة بصرية ساحقة. الصورة هنا ليست حيادية، بل منحازة إلى المأساة، تخلق طعمًا لذيذًا. أما الموسيقى، فهي ليست خلفية، بل شريك سردي. كل نغمة، كل صمت، كل ارتجاج صوتي، يوجّه إحساس المشاهد كما لو كان داخل عقل الشخصية. والمونتاج؟ هو اليد الخفية التي ترتّب الفوضى.
لا يترك بارك شيئًا للمصادفة، بل يضع كل قطعة من الفيلم في مكانها، ليكتمل المشهد في اللحظة المناسبة. الفيلم هنا ليس مجرد تسلسل أحداث، بل لغزٌ بصري ونفسي، يُحلّ تدريجًا، ويترك أثرًا لا يُمحى. في النهاية، ليست أفلام بارك تشان ــ ووك للعرض فقط، بل للغوص. فيلمه الجديد دعوة إلى التورّط، إلى أن تكون شاهدًا ومشاركًا وضحية في آن واحد. إنها تجربة لا تُشاهد، بل تُعاش.