اوراق خاصة

إرث الذاكرة التاريخية سعدون حمادة : لبنان كان للشيعة حتى العام 1760، وكان يُسمّى "جبل سرحان"

post-img

د. زينب الطحان/ موقع أوراق

سعدون حمادة (1943 – 2025) المؤرخ والباحث اللبناني البارز؛ يغادرنا صباح اليوم، وهو ابن بلدة الهرمل البقاعية، والذي كسر الرؤية التقليدية للتاريخ اللبناني، في معظم  مؤلفاته، ما أثار عليه الانتقادات والاتهامات. تخرّج حمادة في الجامعات اللبنانية وتخصّص بالتاريخ والفكر السياسي. كان من الشخصيات الفكرية المستقلة التي رفضت الاصطفافات الحزبية الضيقة، وركز على البُعد التاريخي والاجتماعي للهوية الشيعية في لبنان؛ فكان أهم مؤلفاته:  

تاريخ الشيعة في لبنان (مجلدان) – من أهم أعماله وأوسعها انتشارًا، يوثّق مراحل الحكم الشيعي في جبل لبنان وما تلاه من تهجير وظروف سياسية معقدة، وحصد الكتاب "جائزة كتاب العام العالمية" في العاصمة الإيرانية طهران في العام 2015. ونُقل عن الرئيس الإيراني حسن روحاني تقديره لهذا العمل بكونه "رمزًا للجهاد الثقافي والفكري والعلمي". وكتابه "الإقطاع في جبل عامل – دراسة في البنية الاجتماعية والسياسية للجنوب اللبناني عبر العصور"، وكتب أخرى ومقالات متفرقة حول التاريخ السياسي والاجتماعي للطائفة الشيعية وعلاقتها بالكيانات المحيطة، فتمرّد فكريًا؛ ولم يكن أسير الرواية الطائفية التقليدية، بل سعى إلى تقديم قراءة نقدية لمرحلة تغييب الشيعة في التاريخ اللبناني، خصوصًا بعد سقوط إمارة جبل عامل. واشتغل على كشف التعتيم التاريخي الذي رافق الوجود الشيعي في لبنان، رابطًا بين الماضي والمخاضات السياسية المعاصرة؛ فلم يُهادن السلطة المركزية ولا السرديات الرسمية، مركّزًا على إبراز الدور المهمّش للشيعة في صياغة الكيان اللبناني.

لقد ترك المؤرخ البقاعي سعدون حمادة إرثًا علميًا غنيًا يُعد مرجعًا لا غنى عنه في دراسة تاريخ الشيعة في لبنان، وفتح مجالًا لقراءات جديدة تتجاوز الحساسيات المذهبية، باتجاه كتابة تاريخ وطني جامع. وفاته، اليوم، شكّلت خسارة للمشهد الثقافي اللبناني، خصوصًا أن كتبه تظلّ محطّة أساسية لفهم تكوين لبنان السياسي والاجتماعي.

كان شغوفًا بالتاريخ فأسس مكتبة خاصة وفريدة في نوعها؛ وكان يقول عن حكايات أجداده عن ضيعته في محافظة الهرمل البقاعية كانت أكثر تماسكا وإقناعا من كتاب التاريخ المدرسي. وفي السبعينيات من القرن الماضي حين كان يحضر أطروحة الدكتوراه تحت إشراف أحد المستشرقين في فرنسا، أدرك أنه ارتكب جريمة بحق أهل بلده ومنطقته، فقد بثّ فيها كل ما يعدّ دخيلًا على التاريخ اللبناني، فشعر بمسؤولية أكبر لتصحيح ما اقترفت يداه.

بعد رحلة مضنية من السفر والبحث في أرشيف الدول الاستعمارية التي حكمت الدول العربية (تركيا، فرنسا، بريطانيا)، وخصوصًا سوريا ولبنان. وفي هذا الصدد يقول في روايته عن التاريخ اللبناني: «إن تاريخ لبنان الموجود بين أيدينا لا صلة له بالحقيقة الواقعية وهو عبارة عن مجرد تهيؤات وتصورات وضعها من يرغب في الإضاءة على تاريخ محدد، ولو كان بعيدا عن الواقع..». لم يكتف حمادة بالإضاءة على تاريخ تلك المناطق، واهتم بشكل كبير بتاريخ جبل عامل الذي ظل مغيبا، ولم يكن يربط بتاريخ لبنان، وتعمد البعض نسيانه كليًا، وكأنه لا ينتمي إلى البلد، مع أنه كان تابعًا لولاية الشام. من هنا، كتب سلسلة تاريخ الشيعة في لبنان».

إذا دخلنا إلى التاريخ مع حمادة، نسمع بمؤرخ يدعى الأب جبران، عاش في أوائل القرن العشرين، عندما كانت متصرفية لبنان تابعة للدولة العثمانية التي كانت في طريقها نحو الانهيار، فأنشأ وقائع تفشي ميوله وتبين رغبته في الانفصال عن المحيط العربي. وفي تلك الحقبة انقسم اللبنانيون، فمنهم من أراد الانضمام إلى مشروع سوريا الكبرى، ومنهم من رغب في الانتماء إلى الغرب الأوروبي عبر فرنسا، فنجح العديد من المؤرخين في خلق معارك وهمية. ونحن نحتاج- مع الأسف، إلى وقت طويل للتخلص من هذه الوقائع الدخيلة والمزيفة. فمثلا، تعد معركة عنجر في كتب التاريخ اللبناني، من أهم المحطات التاريخية، ويؤكد البعض أنها وقعت بين فخر الدين والمعنيين، لكن في واقع الأمر، يشير ما توصلت إليه من حقائق بحسب الوثائق، إلى أن معركة عنجر وقعت بين الدولة العثمانية وولاتها، وكان من بينهم فخر الدین آنذاك، والمعارضين أو أعداء السلطة الذين كانوا شيعة البقاع في ذلك الوقت. ويتابع حمادة سرده التاريخي، ليعطي مثلا آخر عن معركة «عين دارة»، التي يقال إنها وقعت بين القيسيين واليمنيين الذين كانوا في لبنان، وهذا غير صحيح، فهذه المعركة وقعت في الشوف بين جند بعلبك وبعض أنصار الوالي الذي كان معينا وقتها فيها من قبل والي صيدا.. وما يؤكد هذه الحقيقة هو تقرير القنصل الفرنسي الذي عاش المعركة وواكبها، ونقل ما حدث فيها.

يلفت إلى أن تاريخ لبنان في الإمبراطورية العثمانية كان تاريخ صراع بين الدولة العثمانية وأهل البلد الذين كانوا معظمهم من الشيعة، وكان ثمة معارك متواصلة بينهم، لأن اللبنانيين كانوا يرفضون أي حاكم من الخارج.. وكانت الدولة العثمانية في معظم الأحيان تضطر إلى الخضوع للأمر الواقع الذي كان يفرضه الأهالي بعد نزاعات عسكرية عديدة.. وكانت تعترف بالحكام المحليين.

لا يرى حمادة أن مشروعه التغييري في كتابة التاريخ قد انتهى وهو في هذا العمر، فلا يزال يحصل على وثائق بطرائق مختلفة، ومع أنه لا يدري الآن أهميتها، ولكنه على يقين بأنها ستبلور له العديد من الحقائق، مثلما حدث معه في موضوع كشف الثورة الشيعية في لبنان التي حدثت في جبل لبنان ثم انتقلت إلى جبل عامل والبقاع، وهي ثورة مغيبة تماما من تاريخ لبنان ولم يذكرها أحد. والغريب، بحسب حمادة، أن أهم الأحداث في عهد الإمبراطورية العثمانية وقعت في هذه الثورة، فعلى مدى خمسة وعشرين عامًا، كانت الجيوش العثمانية تتوالى من الأناضول، وعلى رأسها أهم قادة الجيش العثماني. وقد حاول سبعة صدور عظام الدخول إلى جبل عامل، فلم يوقفوا الثورة أبدًا، وجاء كتابه الثورة الشيعية في لبنان ليكون الأكثر سطوعًا وإضاءة على هذه الحقيقة التاريخية.  وهو يدلف بنا في هذا المنعطف ليعرج سريعًا على الوجود التاريخي للشيعة في المنطقة، متسائلا عن تلك القدرات الهائلة في حفظ وجودهم والهوية الخاصة بهم، حيث لم يقدر أحد على هزيمتهم، على الرغم من التضحيات كلها التي بذلوها؛ لأن الدولة العثمانية كانت تتهمهم بالكفر، وتعلن "واجب الجهاد" ضدهم، فكانوا يقاتلون دفاعًا عن وجودهم، حتى أصبحوا محاربين شرسين عبر التاريخ.

لكن الصدمة الأكبر التي فجرها المؤرخ سعدون حمادة حين كشف أن لبنان كان للشيعة حتى العام 1760، وكان يُسمّى "جبل سرحان". وكشف عن 845 وثيقة تقلب تاريخ البلد.."جمهورية العصاة الحرة الشيعية" امتدت من كسروان حتى حلب، حينها اتفقت البابوية وفرنسا مع السلطان العثماني على إنشاء "دويلة مارونية" فبدأت باضطهاد الشيعة وتهجيرهم، بعد أن كان الحاكم الشيعي هو من يثبت البطريرك وبإشرافه تتم مراسم تنصيبه، وكسروان بجميع قراها سكنها الشيعة بينما الوجود المسيحي لم يتخطّ نهر إبراهيم، وأول كنيسة عمّرها الشيعة في "حراجل".

يذكر حمادة تفاصيل كثيرة مغيّبة عن كتب التاريخ اللبناني؛ هذا التاريخ الذي ما نزال نتجادل فيه وفي هويته الحقيقية؛ توفي وهو يأمل أن يأتي من بعده من يكمل كشف هذه الحقائق المخبئة في صناديق القنصليات الأجنبية والإمبراطورية العثمانية ووثائق مندوبي الاحتلال الفرنسي وإرسالياتها التبشيرية التي قدمت إلى لبنان قبل احتلالها بقرنين أو أكثر.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد