ماجد جابر (جريدة الأخبار)
في بلدٍ لا يزال يحاول استعادة ثقة شبابه بالعلم والفرص، تُمارَس مفارقات غريبة تحت عنوان «تكريم المتفوّقين». ففي حين تُقدّم منح جامعية كاملة للطلاب الخمسة الأوائل في كل فرع من فروع الثانوية العامة، يُقصى أصحاب المراتب من السادسة حتى العاشرة، رغم أنّ الفارق في النتائج لا يتجاوز أحياناً علامة واحدة من أصل ٥٧٠ بين المرتبتين الخامسة والسادسة أو ربع علامة من ٢٠ في المعدل العام بين المرتبتين الأولى والسابعة.
فهل يُعقل أن يتحكّم هذا الفارق المتناهي الصغر بمصير طلاب قضوا أعوامًا من الجهد والتفاني؟ وهل من المقبول أن تُبنى قرارات تربوية مصيرية على نتائج قد تتأثر بتفاوت المصححين، أو بتفسير غير موحّد لسؤال معيّن، في امتحانات لا تزال تعتمد الورقة والقلم وأساليب تقليدية في التصحيح؟ وهل يُعقل أن يُحرم طالب في المرتبة السادسة او السابعة من المنحة الجامعية، في حين ينالها الطالب الخامس بفارق لا يُرى إلا بعدسة المجهر؟
ما يحصل لا يُعبّر عن اختلاف في مستوى الجدارة، بل عن تفاوت في الحظ والآليات. الفارق بين الخامس والسادس قد يكون وهماً إحصائيًا ناتجاً عن تباين في التصحيح، لا عن تفوق فعلي. لكننا في لبنان لا نزال نتعامل مع الترتيب بوصفه حقيقة مطلقة لا تقبل التعديل أو الاعتراض، فنمنح طالباً فرصة العمر، ونحرم آخر منها، وكأنّ العلامة وحدها تكفي لقياس التميز، والجهد، والذكاء.
وهنا، تبرز نظرية العدالة كإنصاف للفيلسوف جون رولز (John Rawls)، التي تؤكّد أن توزيع الفرص يجب ألا يُبنى على نتائج ظاهرية فقط، بل على إنصاف في الفرص والظروف. فالعدالة لا تعني فقط إعطاء المكافأة لمن تصدّر القائمة، بل تمكين جميع المتفوقين من تحقيق فرصهم الفعلية في النجاح.
تحويل ترتيب هش إلى أداة إقصاء، فيه ظلم معرفي وأخلاقي. طالب المرتبة السادسة أو السابعة لا يقلّ استحقاقاً عمّن سبقه، وغالباً ما يُظلم بسبب اختلاف في تقدير المصحّحين أو غياب مراجعة موحّدة للأوراق.
فأين العدالة الإجرائية التي تحدّث عنها الباحثان ثيبوت وواكر (Thibaut & Walker)، والتي تشترط أن تكون الآليات نفسها عادلة لا مجرد النتائج؟ ثم، من منظور النظرية النفعية (Utilitarianism)، ألا يُفترض أن يُقدَّم الدعم لكل العقول المنتجة لما فيه مصلحة المجتمع؟ ما الذي نربحه إذا خسرنا طالباً متفوقاً لأننا تمسّكنا برقم صامت لا يقول شيئاً عن واقعه؟
في بلدان مثل فنلندا، وكوريا الجنوبية، كندا، وألمانيا، لا يُختزل التفوق بالترتيب الرقمي، بل تُمنح المنح والجوائز وفق معايير متعدّدة تشمل الأداء العام، الظروف الاجتماعية، الجهد الشخصي، وحتى المقابلات الشخصية لضمان العدالة. بينما في لبنان، تبقى العلامة النهائية هي معيار الحسم الوحيد، رغم محدودية أدوات التقييم، وتفاوت المصحّحين، وعدم وجود آليات طعن أو مراجعة جدية. أما في كندا، على سبيل المثال، فيُفتح المجال أمام الطلاب للاعتراض الرسمي، ويُعاد تقييم الأهلية وفق معايير مركّبة تُراعي العدالة والجهد، لا الرقم فقط.
في معظم التجارب التربوية العالمية، يُحتفى بالعشرة الأوائل، بل يُعَدّون نواة التفوق الوطني، وتُقدَّم لهم برامج دعم ومرافقة طويلة الأمد. أما في لبنان، فنتعامل مع المرتبة السادسة والسابعة وصولًا للعاشرة، وكأنها سقوط علمي! وذلك يُعبّر عن قصور في الرؤية الاستراتيجية، أكثر مما يُعبّر عن إنصاف في التقييم. فالعقل المتفوق ليس ترفاً يمكن تجاهله، بل مورد وطني تجب رعايته وتنميته.
والمفارقة أن الدولة تدفع لاحقاً أضعاف كلفة المنحة، عندما يُهاجر هؤلاء المتفوقون ويستثمرون قدراتهم في الخارج.
هنا يُطرح سؤال استراتيجي: أليست المنح الدراسية الدقيقة استثماراً وقائياً في رأس المال البشري؟ وهل نملك في لبنان ترف التفريط بمن يحمل بذور الإنتاج المعرفي والقيادي؟
لا يُولّد هذا الإقصاء ظلماً أكاديمياً فحسب، بل يُخلّف أثراً نفسياً عميقاً. الطالب الذي لم يُقدَّر رغم تفوّقه، يشعر بالإقصاء لا لقصوره، بل لقصور النظام. وقد يفقد الدافع، أو يُجبر على اختيار مسار جامعي لا يليق بمستواه، فقط لأنّ كلفة التعليم الخاص تفوق إمكانياته.
هنا نستحضر نظرية «القدرات» لأمارتيا سن (Amartya Sen) التي تؤكد أن العدالة ليست فقط في توزيع الموارد، بل في تمكين الأفراد من تحقيق إمكاناتهم. وفي هذا السياق، يختصر أحد الطلاب المتفوقين المأساة بجملة مؤلمة: أشعر أن جهدي ضاع لأنني لم أحصل على منحة بسبب علامة واحدة من ٥٧٠ نقطة. صوت كهذا يجب ألا يُهمَل، لأنّه يُعبّر عن شريحة من الشباب اللبناني تشعر بأنّها تُحاسب على ما لا تتحمّل مسؤوليته.
ما نطالب به ليس ترفًا ولا مجاملة. إنّه نداء تربوي، أخلاقي، ووطني، لإعادة النظر في فلسفة التقييم والمكافأة. وندعو بوضوح إلى توسيع دائرة المنح لتشمل العشرة الأوائل في كل فرع. ففي زمنٍ يهاجر فيه المتفوّقون، وتضمحل فيه الثقة بالمؤسسات، يصبح من واجبنا حماية النخبة لا إقصاءها. أليس من العدل أن نقول لطالب المرتبة السادسة والسابعة والعاشرة: لقد تفوّقت... ونحن نراك؟