الشيخ د. محمد باقر كجك/ باحث وأستاذ جامعي
على الرغم ممّا يحصل، في هذه الأعوام الصعبة، إلا أنّ نسيمًا من أجواء الفرح والبهجة بقدوم سيد البشرية محمد - صلى الله عليه وآله وسلّم- يغمر العالم الإسلامي، ذاك النور الذي أشرق في ليل الإنسانية الطويل؛ فبدّد ظلمات الجهل، وأعاد للإنسان كرامته ومعناها.
إنها ذكرى تتجاوز الاحتفالات الشكلية، لتحوّل القلوب نحو تجديد العهد مع الرسول الأكرم الذي علّمنا معنى الرحمة، وأرسى دعائم الأخوة، وبنى أمةً واحدة شعارها: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾. وفي خضمّ التحديات الكبرى التي تمزق الأمة الإسلامية من فتن وحروب وتشرذم، تبرز هذه المناسبة المباركة فرصة ثمينة لإحياء معنى الوحدة الإسلامية، وتعزيز التضامن بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وأقطارهم، ولتشكل فرصة للعودة إلى الجذر النقي الذي يجمعنا جميعًا: محبة النبي محمد (ص) الذي لم يفرّق بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود، إلا بالتقوى والعمل الصالح. ومن هنا، يصبح المولد النبوي ليس فقط ذكرى تاريخية، هو نقطة انطلاق لتجديد الدعوة إلى الوحدة بين المسلمين، وإعادة وصل ما انقطع بينهم، استلهامًا من الفكر الإسلامي المعاصر ومن تجارب العلماء والمصلحين الذين رأوا في هذه المناسبة جسرًا للتلاقي، وبعيدًا عن الجدال والعنف الذي لا طائل تحته.
الاحتفال بعيد المولد النبوي
على الرغم من الاختلاف التاريخي بين المسلمين، السنة والشيعة، في تحديد يوم المولد النبوي (12 ربيع الأول عند أهل السنة و17 ربيع الأول عند الشيعة الإمامية)، فإن الجوهر واحد: الاحتفاء بقدوم الرحمة المهداة للعالمين. لقد شكّل هذا الاختلاف مناسبةً لاقتراح أسبوع كامل يُعرف بـ"أسبوع الوحدة الإسلامية"، يبدأ في الثاني عشر وينتهي في السابع عشر من ربيع الأول، فيتحوّل التباين في التواريخ إلى فرصة للتلاقي والحوار والبحث عن الأهداف الكبرى للأمة الإسلامية. وفي هذا السياق، يصبح الفرح بالمولد تعبيرًا مشتركًا عن المحبة والولاء للنبي، بعيدًا عن العصبية المذهبية، ومجسدًا لقول الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103).
الأسباب الموجبة للوحدة الإسلامية
لقد رأى الإمام روح الله الخميني (قدس سره) أنّ التفرقة بين المسلمين لم تكن يومًا وليدة اجتهادات فقهية، بقدر ما كانت سلاحًا بيد الاستعمار وأدواته. في خطبه ورسائله المتكررة، بعد انتصار الثورة الإسلامية في العام 1979، قال لقد: "أراد رسول الإسلام أن يحقق وحدة الكلمة في العالم كله، أراد إخضاع جميع بلدان العالم لكلمة التوحيد، أراد أن يخضع الربع المسكون بكامله لكلمة التوحيد، بيد أن أغراض سلاطين تلك المرحلة من جهة، وأغراض علماء النصارى واليهود وأمثالهم من جهة أخرى، منعته من تحقيق ذلك، والآن فإنهم يمنعون ذلك أيضًا... إن تكليف رؤساء الإسلام الآن وسلاطين الإسلام ورؤساء الجمهوريات الإسلامية أن يضعوا هذه الاختلافات البسيطة الموسمية جانبًا، فلا يوجد عرب وعجم، ولا ترك وفرس، بل هناك الإسلام، كلمة الإسلام، يجب عليهم أن يتبعوا رسول الإسلام في طريقته في المواجهة والصراع، ويكونون تبعًا للإسلام"[1].
لقد سار الإمام السيد الخامنئي على خطى أستاذه الإمام الخميني (قدس سره)، لكنه وسّع إطار الفكرة وأضفى عليها أبعادًا حضارية واستراتيجية. إذ منذ تسلمه القيادة، في العام 1989، رأى أن الوحدة ليست شعارًا عاطفيًا يُرفع في المناسبات، بل "استراتيجية وجودية لحماية الأمة من مشاريع التفتيت". وقد انعكس هذا الفهم في خطبه المتكررة، خلال "أسبوع الوحدة الإسلامية"، مؤكدًا أنّ العدو يسعى دائمًا إلى إذكاء الفتن المذهبية، وأن "الواجب على العلماء والمفكرين والإعلاميين أن يحولوا هذه الفتن إلى جسور للتلاقي".
كما أشار سماحته، في أكثر من مناسبة، إلى أن تجربة الأمة مع الاحتلالين الأمريكي والصهيوني كشفت أن "الدماء التي تسيل في فلسطين والعراق ولبنان وسوريا لا تفرّق بين سني وشيعي"، وهو ما يجعل الوحدة واجبًا مصيريًا لا خيارًا ثانويًا. تاريخيًا؛ يمكن أن نلحظ أثر هذه الرؤية في دعم الجمهورية الإسلامية لحركات المقاومة في فلسطين ولبنان، حيث التقت قوى إسلامية من مذاهب مختلفة في خندق واحد ضد الاحتلال.
في العالم العربي، لم تكن دعوة الوحدة حكرًا على إيران، لقد وجدت صدى واسعًا بين علماء الأزهر الشريف. لقد أدى الشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر (ت 1963) دورًا محوريًا في إرساء دعائم التقريب بين المذاهب. إذ في العام 1959؛ أصدر فتواه الشهيرة التي عدت المذهب الجعفري مذهبًا إسلاميًا خامسًا يجوز التعبّد به شأنه شأن المذاهب الأربعة السنية، وهو ما مثّل خطوة تاريخية غير مسبوقة في مسار الاعتراف المتبادل.
هذه الفتوى لم تأتِ في فراغ، بل جاءت في سياق جهود "دار التقريب بين المذاهب الإسلامية" التي أسست في القاهرة، في العام 1947، بمشاركة علماء بارزين مثل محمد المدني ومحمد البهي، إلى جانب شخصيات شيعية مثل السيد عبد الحسين شرف الدين. وقد أكد علماء الأزهر، في أكثر من مناسبة، أنّ العدو الحقيقي للأمة ليس الخلاف الفقهي أو الاجتهادي، وإنما الاستعمار والصهيونية التي تعمل على تمزيق وحدة المسلمين. ورأت فتوى الشيخ الشلتوت الشهيرة التي فتحت بابًا إضافيا للوحدة الإسلامية :" أن مذهب الجعفرية، والمعروف بمذهب الشيعة الأمامية الاثنا عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعًا كسائر مذاهب أهل السنة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وان يتخلصوا من العصبية بغير الحق لمذاهب معينة، فما كان دين الله وما كانت شريعته تابعة لمذهب أو مقصورة على مذهب، فالكل مجتهدون مقبولون عند الله تعالى، يجوز ـ لمن ليس أهلًا للنظر والاجتهاد تقليدهم والعمل بما يقررونه في فقههم، ولا فرق في ذلك بين العبادات والمعاملات".[2]
علاقة الوحدة الإسلامية ببناء الحضارة الإسلامية الجديدة
إنّ الوحدة الإسلامية ليست مجرد مطلب روحي أو وجداني، هي شرط أساسي لبناء حضارة إسلامية جديدة قادرة على مواجهة التحديات واستعادة موقع الأمة في التاريخ. لقد قامت الحضارة الإسلامية الأولى على أساس وحدة الصف، حين استطاع المسلمون الأوائل أن يجمعوا بين العربي والفارسي والتركي والأمازيغي والهندي في إطار حضاري واحد، جعل من بغداد ودمشق وقرطبة والقاهرة مراكز إشعاع للعلم والفكر، حتى شهد الغرب نفسه أن نور الحضارة انتقل إليه من ضفاف العالم الإسلامي. كانت الوحدة آنذاك أساس القوة، وبها تحولت أمة ناشئة إلى قوة عالمية.
الإمام الخميني (قدس سره) ربط هذه الحقيقة بمصير الأمة المعاصرة في خطابٍ له في موسم الحج: "ومن جملة الوظائف في هذا الاجتماع العظيم دعوة الناس والشعوب الإسلامية إلى وحدة الكلمة وإزالة الاختلافات بين طبقات المسلمين، ويجب على الخطباء والكتّاب الإسهام في هذا الأمر المهم وبذل الجهد من أجل إيجاد جبهة المستضعفين، فيمكن من خلال وحدة الجبهة واتحاد الكلمة وشعار لا إله إلا الله التخلص من أسر القوى الشيطانية للأجانب والمستعمرين والمستغلين، والتغلب على المشكلات بالإخوة الإسلامية". لقد كان يرى أن استعادة القوة الحضارية لا يمكن أن تتم إلا عبر الوحدة، وأن "الخلافات المذهبية الصغيرة" يجب أن تُدفن أمام التحديات الكبرى؛ لأن العدو لا يفرّق بين شيعي وسني حين يخطط للهيمنة على ثروات الأمة ومقدراتها.
أما الإمام السيد علي الخامنئي؛ فقد طوّر هذا التصور إلى مشروع حضاري متكامل تحت عنوان "الحضارة الإسلامية الحديثة"؛ طبعًا للوحدة مراتبها، اتحاد العالم الإسلامي له مراتب، أدنى مراتبه أن لا تتطاول المجتمعات الإسلامية والبلدان الإسلامية والحكومات الإسلامية والقوميات الإسلامية والمذاهب الإسلامية على بعضها البعض، ولا تعارض بعضها البعض، ولا توجه الضربات لضعها لبعض.. هذه هي الخطوة الأولى. طبعًا المرتبة الأعلى من ذلك، هي فضلًا عن عدم توجيه العالم الإسلامي الضربات بعضه لبعض، أن يتعاضد هذا العالم مقابل العدو المشترك، ويتحلى بالاتحاد الواقعي والكافي، ويدافع بعضه عن بعض.
هذه مرتبة أعلى، والأعلى من ذلك أيضًا أن تتآزر وتتكامل البلدان والشعوب الإسلامية فيما بينها. ليست البلدان الإسلامية في مستوى واحد من النواحي العلمية، ومن حيث الثروة والأمن والقوة السياسية، لذلك يمكنها أن تتعاون وتتآزر، فيأخذ المتمكنون في أي مجال بأيدي من هم أدنى تمكّنًا منهم، هذه أيضًا مرحلة من مراحل الوحدة.
المرحلة الأعلى أيضًا هي أن يتحد العالم الإسلامي كله للوصول إلى الحضارة الإسلامية الحديثة وتحقيقها. هذا ما جعلته الجمهورية الإسلامية هدفها وغايتها القصوى: الوصول إلى الحضارة الإسلامية، ولكن حضارة متناسبة وهذا الزمن، الحضارة الإسلامية الحديثة. هذه هي مراتب الوحدة"[3]. كما شدّد، في مناسبة أخرى، على أن الوحدة هي بوابة العزة المستقبلية؛ يقول سماحته: "أعتقد بأنّ وحدة المسلمين تعدّ ضرورة حيوية، وليس شعارًا. إنّ على المجتمعات الإسلامية أن توحّد كلمتها وتسير باتجاه واحد"[4].
إنّ هذه الرؤية لم تبقَ حبرًا على ورق، لقد وجدت تجسيدًا عمليًا في دعم المشاريع المشتركة التي تجمع المسلمين، سواء عبر المؤتمرات الفكرية أو عبر التقارب بين الحركات الإسلامية المقاومة للاحتلال والاستعمار. وهنا يلتقي البعد الفكري بالبعد العملي: الحضارة الإسلامية الجديدة لا تعني مجرد استعادة الماضي، إنما إعادة صياغة الحاضر والمستقبل بروح جامعة، قادرة على أن تقدم للعالم نموذجًا بديلًا عن الهيمنة المادية الغربية.
بهذا، الوحدة الإسلامية اليوم ليست مطلبًا عاطفيًا وحسب، هي المفتاح الضروري لبناء حضارة إنسانية عادلة، تسع المسلمين أولًا، ثم تخاطب العالم كله بروح الرحمة والعدل التي جاء بها محمد (ص).
ضرورات المقاومة والوحدة الإسلامية
إن الوحدة الإسلامية ليست غاية في ذاتها فحسب، هي وسيلة لحماية الأمة من الأخطار التي تستهدف وجودها ومصيرها. لقد اعتمدت مشاريع الاستعمار والصهيونية، عبر التاريخ، على مبدأ "فرّق تسد"، فأشعلت الصراعات المذهبية والقومية والعرقية لتفتيت المجتمعات الإسلامية وضمان السيطرة عليها. ومن هنا، تكتسب الوحدة الإسلامية بعدًا مصيريًا، إذ إنّها تشكّل خط الدفاع الأول أمام محاولات التسلط والهيمنة.
لقد أثبتت التجارب المعاصرة أنّ المقاومة هي ثمرة طبيعية للوحدة، وأنّها في الوقت نفسه طريق لحمايتها وتعزيزها. في فلسطين ولبنان، قدّمت حركات المقاومة نموذجًا حيًّا لكيفية التلاقي بين السنة والشيعة في خندق واحد، مواجهةً العدو المشترك. في غزة، اجتمعت فصائل سنية، حماس والجهاد الإسلامي، مع دعم محور المقاومة الذي يضم قوى شيعية، لتثبت أنّ الدم الذي يسيل في مواجهة الاحتلال لا يميّز بين مذهب وآخر. وفي لبنان، مثّل حزب الله مدرسة في تحويل الاختلاف المذهبي إلى تنوّع داعم للوحدة، فقد وقفت قواه إلى جانب حركات وطنية وإسلامية سنية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
هذا المعنى أكّد عليه السيد الشهيد حسن نصر الله (قدس سره)، مرارًا في خطاباته، ورأى أنّ وحدة المسلمين والمسيحيين، وحتى القوى الوطنية غير الدينية هي شرط للنصر. قال في خطاب النصر سنة 2006: "إن نصرنا ليس انتصار حزب.. أعيد ما قلته في بنت جبيل في 25 أيار في العام 2000 ، ليس انتصار حزب، ليس انتصار طائفة، ليس انتصار فئة، هو انتصار لبنان الحقيقي وشعب لبنان الحقيقي، وكل حرّ في هذا العالم. لا تحوّلوا الانتصار التاريخي الكبير، لا تسجنوه في علب حزبية أو مذهبية أو طائفية أو قطرية، هذا نصر أكبر بكثير مما تطيقه عقولنا ومما تستوعبه عقولنا".
إنّ هذه الشواهد التاريخية والميدانية تؤكد أنّ الوحدة ليست شعارًا نظريًا، هي ضرورة استراتيجية لبقاء الأمة وصمودها أمام العدو. هي التي تجعل المقاومة ممكنة، وهي التي تمنع الانهيار أمام مشاريع الهيمنة، وهي التي تفتح الطريق لبناء مستقبل تزدهر فيه الأمة بأجمعها.
ختامًا
إنّ ذكرى المولد النبوي الشريف ليست مجرد محطة للاحتفال والفرح، هي نداء متجدد للأمة كي تنهض من سباتها وتستعيد وحدتها. في يوم ولادة رسول الرحمة، نستحضر رسالته التي جمعت القلوب قبل أن تجمع القبائل، ووحّدت النفوس قبل أن توحّد الأرض.
اليوم، والأمة محاطة بالمؤامرات والفتن، يصبح التمسك بالوحدة واجبًا ثوريًا يساوي في أهميته الجهاد والمقاومة. المستكبرون لا يخشون من شعائرنا متفرقة، بل من إرادتنا إذا اجتمعت، ومن قوتنا إذا توحّدت. إنّ العدو يعرف أنّ أمة محمد(ص)، متى ما وقفت صفًا واحدًا، ستغيّر وجه التاريخ وتكسر قيود التبعية.. فلنجعل من هذه الذكرى المباركة عهدًا جديدًا: أن يكون حبّ النبي محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- هو الحبل المتين الذي نعتصم به جميعًا، وأن تكون دماء الشهداء التي امتزجت، في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، دليلًا على أنّ وحدتنا ليست حلمًا، بل واقع يولد من رحم التضحيات.
الوحدة اليوم ليست خيارًا ثانويًا، بل هي قدر أمة تريد أن تصنع حضارتها من جديد.. فلنرفع أصواتنا معًا: سنّة وشيعة، عربًا وعجمًا، رجالًا ونساءً، فقراء وأغنياء، تحت راية واحدة تقول: لا شرقية ولا غربية، بل أمة محمد واحدة مقاومة حرة موحّدة ماضية لتبني حضارة الإسلام من جديد.