محمد جواد ظریف*/ جريدة الأخبار
لقد برهن العدوان الإسرائيلي الشائن على قطر، بلا أدنى شكّ، أنّ منطقة غرب آسيا تقف على حافّة الهاوية، ويتعيّن الانتخاب ما بين: العدوان الذي لا ينتهي وبزوغ فجر تعاون حقيقي. وفي قلب هذا الاضطراب والارتباك، هناك الحملة المستدامة للكيان الإسرائيلي لزعزعة استقرار المنطقة وإقحامها في الفوضى والمعاناة؛ بدءًا من الإبادة الجماعية في غزة ــــــــ حيث يُقتل عشرات آلاف الفلسطينيين، وتحوّلت كل الأحياء إلى أنقاض وركام، وحدثت كارثة إنسانية هُندست عن طريق الحصار والمجاعة ــــــــ وصولًا إلى التطهير العرقي الممنهج في الضفة الغربية، وهجمات يومية تقريبًا على اليمن وسوريا ولبنان، واليوم على قطر، وهذا كلّه يرسم صورة عن عدوان جامح ومنفلت العقال.
لا يراعي القصف الإسرائيلي أي خط أحمر. ففي إيران، اغتيال العلماء ومهاجمة منشآتنا هو بمنزلة ممارسة إرهاب الدولة بشكل سافر. وفي قطر، عدوان إرهابي على مفاوضي السلام، أظهر أن السلام يشكّل التهديد الوجودي الوحيد لإسرائيل. ولا يمكن تجاهل هذه الإجراءات بوصفها استزادة وتشدّد حكومة «يمينة متطرفة»؛ بل هي جزء من استراتيجية أوسع ومدروسة لجعل المنطقة برمّتها تستسلم لسلطة عديمة الرحمة عن طريق الاستئساد والتنمّر.
تضرب هذه الاستراتيجية بجذورها في الآفاق الشيطانية لـ«إسرائيل الكبرى»؛ خطّة توسّعية تبحث عن تثبيت إسرائيل كسلطة لا منازع لها في المنطقة وجعل جميع البلدان الجارة تطيعها وترضخ لإرادتها. ولتحقيق حلم الدمار الحضري هذا، يستخدم الكيان الاسرائيلي أدوات من مثل العدوان العسكري الجامح والإبادة الجماعية والتطهير العرقي والضمّ. وهذا المشروع يتطلّب التحريف الوقح للتاريخ ـــــــ إعادة كتابة الروايات لتبرير الاحتلال ونزع الملكية. وبالتزامن، يعرّض أرواح الملايين للخطر، ويهدّد وجود بلدان المنطقة.
تنطوي «إسرائيل الكبرى» على ضم أراضٍ واسعة: فلسطين كلّها، وأجزاء من غور الأردن وجنوب لبنان حتى نهر الليطاني، ومرتفعات الجولان وما بعدها في سوريا، وأجزاء من غرب العراق وشبه جزيرة سيناء في مصر وحتى منطقة شمالي غرب الحجاز بالعربية السعودية.
إنّ هذا الوهم المتوحّش يحصل بهدف هدم مبادئ القانون الدولي والقضاء على تحمّل المسؤولية عن طريق الضغط السياسي والسخرية من أحكام محكمة العدل الدولية بشأن الإبادة الجماعية، والاحتلال، والأبارتايد، وضمان الحصانة الكاملة عن طريق الدعم السافر الذي تقدّمه له القوى الغربية لا سيما الولايات المتحدة. ويسمح هذا الدرع الدفاعي لإسرائيل بتنفيذ عمليات القصف والقتل والإصابة كيفما تشاء مستفيدة من الإفلات من العقاب وتحويل المنطقة إلى غابة من الهمجية الدائمة.
حضر نتنياهو العام الماضي إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة وعرض خارطتين ـــــــ ما يسمّى «خارطة البركة» و«خارطة اللعنة» ــــــــ ليميط اللثام عن تصوّره للمستقبل. وكان هذا غطاء لخطّته الشريرة لضرب المنطقة بأسرها، بدءًا من غزة وصولًا إلى الدوحة، من أجل تحقيق وهم ما.
المجاعة كسلاح في غزة، والأبارتايد والوحشية وقضم الأراضي في الضفة الغربية، والهجمات اليومية على المدنيين والبنية التحتية في سوريا ولبنان واليمن، والعدوان السافر واغتيال العلماء وأفراد أسرهم والجيران والمارة، في إيران، والقصف الجوي لمفاوضي السلام في قطر، وقصف مؤسسات الأمم المتحدة ـــــــ بما فيها المدارس والمستشفيات واستهداف وقتل المئات من الإعلاميين والصحافيين والهجوم على أسطول الصمود ــــــــ كلّها تمثّل «البركة» التي يريد مجرم الحرب هذا، والمتواطئون معه وحماته الذين يخطّطون لغرب آسيا، تقديمها.
أمّا منطقتنا، فيجب ألا تكون محكومة بهذا المشروع الاستعماري والاستعلائي والعنصري القاتل. لدينا رؤية بديلة لمنطقة غرب آسيا تتجسّد في فكرة «منطقة قويّة»، حيث لا تهيمن أي دولة على أخرى، بل أن جميع الدول تستمدّ قوّتها من إحداها الأخرى. ويتجلّى هذا في القيم السامية لديننا المشترك، الإسلام، الذي يدعو إلى العدل والشفقة والتكاتف، وفي مبادئ السيادة ووحدة الأراضي وعدم التدخّل والتعاون.
يستمدّ هذا حيويّته ونشاطه من الجهود الرامية إلى تعزيز المشاركة العادلة للاستقرار الإقليمي. وهذا الأمر يتطلّب الذهاب إلى أبعد من الحسابات مع حاصل الجمع صفر ــــــ حينما يُتصوّر ربح شعب ما كضرر للآخر. وفي المقابل، القبول بالتعاون، حيث يزيد التعاون قوّة الكل عدة أمثال. وهذا الأمر يتوجّب تغليب الحوار على التحكّم واستبدال الرؤية القائمة على التهديد (والتي تفضي إلى التشويش الدائم) بالرؤية القائمة على الإمكانية (والتي تحرّر الطاقات المشتركة). ويُبنى هذا المستقبل على نبذ الطموح السلطوي في سبيل نيل التعاون الحقيقي والإفادة من المقاربات التي تضرب بجذورها في المصالح المحلية بدلًا من التعويل على الأجانب.
تضع هذه الثنائية بين أيدينا، الانتخاب الحيوي الجليّ:
(1) إمّا أن نضع الإرادة والإبداع السياسي جانبًا ونسمح لحكّام الإبادة الجماعية في إسرائيل وحماتهم الأنانيين المضي قدمًا بمشروعهم المدمّر من دون أي رادع
(2) وإمّا العمل في ظل بُعد النظر من أجل بناء مستقبل حافل بالأمن والرخاء المشترك.
إنّ اختيار الطريق الثاني، بحاجة إلى شيء يتخطى الحلول المؤقتة. إنّ القضايا المتجذّرة التي تعصف بمنطقتنا، لا يمكن إدارتها فقط عن طريق السيطرة على الأزمات، بل إنها بحاجة إلى ابتكارات ومبادرات جريئة تستشرف المستقبل، لتتجاوز أطر العتب القديم. إنّ ما نحتاج إليه بصورة مستعجلة هو إطار شامل لإرساء السلام والتعاون المستدامين.
من أجل ذلك، في وسعنا التحرّك باتجاه تشكيل جمعية حوار مسلمي غرب آسيا (مبادرة المودّة)، والتي تيسّر الاستشارات الدائمة حول الأمن والاندماج الاقتصادي والتبادل الثقافي. إنّ هذه المؤسسة قادرة على أن تتحوّل إلى هيكلية أمنيّة إقليمية، تشبه النماذج الناجحة في المناطق الأخرى، ولكنها تتواءم مع تراثنا وأوجه اشتراكنا.
إنّ في إمكان هذه الآفاق كذلك تقديم آلية جديدة ومطوّرة للموضوع النووي في المنطقة. إنّ منطقتنا تواجه، لردح من الزمن، معتديًا مزودًا بالسلاح الذري، يظهر كمتشدّق زائف وكاذب بعدم الانتشار النووي، لإضفاء الطابع الأمني على التكنولوجيا النووية السلمية، ويسعى جاهدًا إلى حرمان الآخرين من هذه التكنولوجيا. بيد أن الخبرة النووية تبشّر بتقديم حلّ للتحدّيات المؤكدة: مكافحة أزمة المناخ عن طريق الطاقة النظيفة، ومواجهة شحّ المياه عن طريق تكنولوجيات معالجة الأملاح، وزيادة الأمن الغذائي بالتطبيقات الزراعية المتطوّرة، وتنويع موارد الطاقة بما يتجاوز احتياطات النفط والغاز الآخذة بالتناقص. ومع تراجع مخزونات الموارد الهيدروكربونية، فإنّ الطاقة النووية ستكون ضرورية للتنمية المستدامة في أرجاء المنطقة.
إنّ آفاق «منطقتنا القويّة» يمكن لها، في ظلّ تركيبة من النضال من أجل تخليص المنطقة من السلاح النووي، المساهمة في التعاون السلمي ضمن شبكة الشرق الأوسط للدراسات والتقدّم الذري (منارة)، تحويل هذا الشيء إلى مستقبل مشترك وآمن. إنّ في مقدورنا التخطيط لاستثمارات مشتركة في مجال تخصيب اليورانيوم وإدارة النفايات والاندماج النووي والنظائر المشعّة العلاجية. وفي وسع الأعضاء مشاركة منشآتهم وتخصّصهم، وضمان الشفافية عن طريق هيئة رقابة مشتركة، وتعزيز الثقة والحدّ من المخاوف المتعلّقة بتطوير الأسلحة النووية.
إنّ المنطقة القوية تشكّل إطارًا ملائمًا تحوّل تضحيات المقاومة إلى استراتيجية وتكفل أن المقاومة الشرعية والقانونية لأبطالنا، تتعزّز بالتضامن والديبلوماسية والتعاون الاقتصادي. ومع التخليق المشترك لمستقبل مُلهِم لغرب آسيا، عابر للصراعات والخلافات العبثية الداخلية، سيكون في وسع بلدان المنطقة وشعوبها تحييد وهم إسرائيل الكبرى المتوحّش المتعلّق بالعصور الوسطى، وضمان شرق أوسط جديد خالٍ من التعصّب والأبارتايد والعدوان وأسلحة الدمار الشامل، حيث يمكن للشعب الفلسطيني، من أي دين ومذهب كان، تقرير مصيره وإدارته بطريقة ديموقراطية. ويمكن لهذا التحوّل إلى واقع إن رأينا، جميعًا، الخطرَ الوجودي للقبوع في غياهب السجن في الماضي وأدركنا إمكانات المستقبل الواعد.
* وزير الخارجية الإيرانية الأسبق [2013-2021]، ومندوب إيران الدائم لدى الأمم المتحدة في الفترة من 2002 إلى 2007، وهو أستاذ مشارك في كلية دراسات العالم بجامعة طهران، ومؤسس ورئيس مؤسسة «أنصار حملة المستقبل الواعد» (PAIAB)