اوراق مختارة

إما دولة وإدارة أو توافق وعجز وتصفية

post-img

منجد صقر (جريدة الأخبار)

كل الترتيبات التي تجريها السلطة في لبنان تحافظ على شكل تقليدي متّبع منذ فترة طويلة، ولا تعير أي اهتمام للتغيرات التي طرأت على الواقع ولا للمشكلات البنيوية التي تنخر فيه. هذا الأمر يبدو واضحاً في كل المفاصل بمعزل عن حجمها.

ففي انتخابات رابطة الأساتذة الثانويين التي ستجرى يوم غد السبت، كان تركيز الأحزاب على التوافق التقليدي بين بعضهم البعض، وهو ما عطّل الدورة الأولى من الانتخاب، متغافلين عن حجم الانهيار وتداعياته التي انعكست تضخماً هائلاً في كل الأسعار أفقد الرواتب والأجور النسبة الأكبر من قدرتها الشرائية، فضلاً عن إفلاس في كامل القطاع المالي وهجرة متنامية إلى الخارج، كما ضربت المؤسسات، ومن أبرزها المؤسّسات التعليمية، التي حُوّلت إلى هياكل وأدوات للحفاظ على ما يمكن تسميته «التوافق التقليدي» بدلاً من أن تكون أداة لتأطير الموارد البشرية في سياق خطة لإنتاج دولة واقتصاد جديدين.

في 13 أيلول تجري رابطة الأساتذة الثانويين انتخابات تتنافس فيها لائحة الأستاذ الثانوي المستقلّ التي ننتمي إليها، ولائحة العمل النقابي التي تضمّ كل الأحزاب التقليدية رغم التناحر إلى حدّ العداوة بين أحزابهم، والتي كان انعدام «التوافق» فيها سبباً في تعطيل الدورة الأولى من الانتخابات، حيث نالت لائحتنا فيها نحو 45% من الأصوات.

نقطة البداية في هذا النقاش هي الأرقام. فقد تراجعت قيمة رواتب الأساتذة نحو 40% مقارنة مع عام 2019، وسجّل التضخّم أكثر من 6500%. هذه الأرقام، وعلى صعوبة التجربة التي تنطلق منها، لا تختصر الحلول، بل هي معاينة لواقع، وتفتح الباب على عدد من الخيارات سأحاول وضعها بسياق شامل، لأن الأزمة التي نتعامل معها والتي أنتجت هذه الوقائع، شاملة وتستلزم حلاً شاملاً غير جزئي.

بدايةً، ما هو موقع الإدارة والتعليم الرسمي في لبنان؟ ما الذي أدّى إلى تعميم مؤسّسات الدولة بهذا الشكل، مع أن أسس الدولة ومنطقها غائبين ولا تُستذكر إلا في التعابير الخطابية؟ لقد كانت الإدارة العامة أداةً ضمن الأدوات الإجرائية لنظام ما قبل الأزمة: أداةً يحتاجها الزعماء لتوزيع الدولارات التي كانت تصل إلى قجّة مركزية هي المصارف ومصرف لبنان. تصل إلى هناك ثم إلى «الدولة»، وتوزّع عبر بدع المياومين والتعاقد وما إلى ذلك.

ضمن النظام هذا، كان للزعماء مصلحة في الحفاظ على هيكلية الإدارة، كونها كانت أداةً تخدم منطقهم. هم لا يرون في مؤسّسات الدولة، مؤسّسات لإدارة سكان ومجال. وهم لا يرون في التعليم الرسمي أداةً لخلق مجتمع متماسك ولتأطير الموارد البشرية في سياق الخطط المطروحة لتُنتج واقعاً اقتصادياً معيّناً. كانت الإدارة والتعليم الرسمي أدوات لتوزيع الدولارات.

تكشفت الأزمة في عام 2019 نتيجةً لتعطّل الأدوات الإجرائية للنظام الذي كان قائماً، بداية في المصارف. إفلاس المصارف، الذي لم يتم التعامل معه منذ 6 سنوات لأن توافقهم لا يُنتج إلا عجزاً، ضرب مركزية استجلاب الدولارات من الخارج. وصارت الدولارات تأتي عبر التحويلات الخارجية من طلابنا المهاجرين، وعبر ارتفاع في وسائل استجلاب الأموال اللامركزية مثل الجمعيات غير الحكومية والأحزاب الطائفية. استجلاب الأموال لم يعد مركزياً، وكذلك توزيعها. وبالتالي، فقدت مؤسّسات الدولة غايتها بالنسبة إلى زعماء الطوائف.

همّهم الوحيد، هو تحقيق دورهم ضمن الطائفة عبر استجلاب الأموال من الخارج وتوزيعها. الإدارة لم تعد تحقّق هذا الدور، لذلك فلا بأس بتصفيتها. هذا هو صلب الإشكالية التي نعيشها منذ 6 سنوات: مسار تصفية للإدارة كنتيجة لعدم التعامل مع الأزمة والتكيّف مع تبعاتها.
هذا بالنسبة إلى الزعماء ومندوبيهم الذين يحتلون موقع المُطالَب في الخطاب السائد. أنطالب جهةً مستعدّةً، لا بل تعمل، على تصفيتنا؟ واقعياً، تراجعت نسبة الاستهلاك المُموّلة بمصادر تمويل قادمة من الناتج المحلي بعدما كانت تمثّل نحو 75% من الاستهلاك المحلي، إلى نحو 50%.

هذا التراجع كان مترافقاً مع زيادة نسبة الاستهلاك المُموّل بمصادر تمويل خارجية مباشرة مثل تحويلات المغتربين والجمعيات غير الحكومية. هذا هو التكيّف مع تبعات الأزمة، وهذا يستلزم تهجير عدد متزايد من الشباب. وقد قاربت نسبة المهاجرين بعد عام 2019 نحو 60% من جيل الشباب. مسار التكيّف الذي يغلب على كل سلوك أفراد مجتمعنا اليوم، غير مضبوط عبر مؤسّسات الدولة بل هو مضبوط عبر العائلات والتشكّلات النسبية. مسار التكيّف الذي يرتضي به مجتمعنا هو نقيض منطق الإدارة، ومؤسسات الدولة، وهو يؤدي إلى تصفيتها.

هذه الزيادة في مصادر التمويل الخارجية تؤدي حكماً إلى ارتفاع الأسعار. وهو مسارٌ تتعمّق تبعاته مع الوقت. كلما ارتفعت الأسعار ازدادت الحاجة إلى مصادر التمويل الخارجية. وكلما ارتفع حجم مصادر التمويل الخارجية ارتفعت الأسعار. إذا كان مسعانا اليوم هو زيادة في قيمة الرواتب، مع الإبقاء على شكل الاقتصاد الحالي، فمن أين ستأتي الأموال فيما يتراجع الناتج المحلي؟ ستأتي من مصادر التمويل الخارجية التي تؤدي إلى ارتفاع الأسعار مجدّداً. أما الحل الجزئي القائم على طرح زيادة في الرواتب فقط، فلن يؤدي إلا إلى تعميق مسار التكيّف الذي يصفّي مؤسّسات الدولة. الطرح الشامل هو الطرح الوحيد الذي يتعامل مع أزمة شاملة ويعكس مسار التكيّف وتبعاته ويحافظ بالتالي على الإدارة العامة.

طرحنا للحفاظ على مؤسّسات الدولة لن يكون محصوراً بالرواتب فقط. بل هو يقدم تعاملًا مع أصل المشكلة. بدايةً بالمصارف وكيف سيتم التعامل مع الخسائر في هذا القطاع؟ ما هو شكل وطبيعة عمل المصارف التي نريد تأسيسها وأي اقتصاد نريد لمجتمعنا؟ ما هي السياسة المالية والضريبية التي تؤسّس لهذا الاقتصاد وتتعامل معه؟ وما هو شكل القطاع التعليمي الذي يرتبط بالبلد ولا يُصدّر الشباب؟ كل هذه الإشكاليات مرتبطة بالظرف الذي نعيشه في البلد وفي قطاع التعليم الرسمي. الجواب على هذه الإشكاليات هو ما يؤسّس لدور فعليّ للإدارة في هذا البلد.

من يسعى إلى تصفية الإدارة العامة لا يمكن أن نطالبه، لا هو ولا مندوبه. التوافق الذي يستعملونه عند كل استحقاق لا يُنتج إلا عجزاً عن التعامل مع الواقع. هل رأيتم طرحاً، في هذه الانتخابات وغيرها، يُنتج عبر التوافق؟ لا طرح للتعامل مع مشكلاتنا وواقعنا. في المقابل، الموظّف العام ليس أجيراً في مؤسّسة رأسمالية ليطالب صاحب رأس المال بزيادة في الراتب عبر اقتطاع حصّة من ربحه. فالموظّف العام يقدّم خدمة عامة في مقابل راتب يأتي من ضرائب يدفعها المجتمع بأكمله.

وهو، بحكم هذا الموقع، يكتسب شرعية الخدمة العامة، وعندما يسعى من هم في موقع المسؤولية إلى تصفية المؤسّسات العامة، فهو يكون في خط المواجهة الأوّل، لأنه هو شرعية الدولة. الخيار يقع الآن بين مسار يعمّق مسار تصفية المجتمع عبر الارتضاء بألاعيب التوافق، وبين مسار يحفظ المجتمع والإدارة العامة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد